Translate

الجمعة، 27 ديسمبر 2013

اللورد ليڤيسون والصغيرة ميلي ...لماذا أنهي ميثاق ملكي ثلاثمائة عام من حرية الصحافة البريطانية

في سرية تامة تقارب تلك التي تحيط بالأسرار النووية وخلف الأسوار العالية والأبواب المغلقة في قصر باكنغهام اجتمع خمسة من كبار وزراء الحكومة البريطانية لتوقيع "ميثاق ملكي" لتنظيم عمل الصحافة وذلك للمرة الأولي منذ 300 عام.. نعم صحيح ما قرأتم فالمرة الأولي منذ عام 1695 تعرف صاحبة الجلالة الصحافة البريطانية قانونا يحاسبها ويراقبها ويعاقبها .. في بادرة نادرة تحالف زعماء أكبر ثلاثة أحزاب على الساحة السياسية - حزب المحافظين ممثلا في رئيس الوزراء ديفيد كاميرون وشريكه في الائتلاف الحكومي نيك كليغ وغريمهما زعيم حزب العمال إد ميليباند - تحالف الجميع ومعهم رأس الدولة الملكة إليزاليث وقرروا أن الوقت قد حان لوضع "رقابة ما على السلطة الرابعة".
لم تكن المعركة سهلة ومازالت رحاها تدور في أروقة المحاكم حتى الساعة. فلم يكن بالإمكان أن يستسلم أباطرة الصحافة البريطانية الذين يفاخرون بحريتهم وتقاليدهم العريقة بسهولة بوضع سيف على رقابهم. وحتي اللحظات الأخيرة من دخول نائب رئيس الوزراء نيك كليغ ومعه الوزراء الأربعة لمقابلة الملكة كان أصحاب الصحف ومالكيها يحاولون وقف التوقيع على" الميثاق الملكي" عن طريق القضاء لكنهم فشلوا. قضي الأمر ووافق البرلمان على معاقبة الصحف التي لا تشارك في النظام الجديد من خلال دفع تعويضات استثنائية تصل إلي مليون جنيه استرليني.
لكن الجدل مازال قائما وأباطرة الصحافة لم يرفعوا الراية البيضاء. هاجموا بشراسة في كل ما تحت أيديهم من صحف وأوراق وبرامج تلفزيونية وإذاعية الميثاق الملكي والهيئة الرقابية الجديدة حتي قبل أن تري النور. فكيف يقبل من تمتع بالحريات ثلاثة قرون بجهاز رقابي يملي عليهم أرادة فيما يتناولون ويقولون. وتحالفت معهم الجمعيات المدافعة عن حرية التعبير وهاجمت الميثاق والهيئة الرقابية. وأدانت جمعية الصحافة البريطانية هذه الهيئة التي تتمتع بنفوذ واسع القرار وقالت إن التنظيم الجديد سيضع عبئا يشل عمل الف ومائة صحيفة تمثلها الجمعية.

 
اللافت للنظر أن حتي الانتساب إلي هذه الهيئة الرقابية يبقي اختياريا. لكن الصحف التي ترفض الانضواء تحت لوائها ستعرض نفسها لدفع تعويضات كبيرة عن الأضرار إذا ما تعرضت لملاحقات قضائية. ويؤكد الزعماء السياسيون أن الهيئة الجديدة ستحول دون حدوث مخالفات وأنها جاءت تجسيدا لإرادة تحقيق قضائي مستقل قام به اللورد ليفيسون وقدمه خلاصة تحقيقاته التي تمتعت بصلاحيات لا حدود لها في تقرير وصل إلى ألفي صفحة بالتمام والكمال..
فما هي حكاية لورد ليڤيسون وماهي حكاية تقريره الذي سيرسم مستقبل الإعلام البريطاني في السنوات القادمة ؟
بدأت الحكاية بهاتف نقال .... نعم هاتف نقال ترجع ملكيته لفتاة مراهقة.
تقرير صحفي كشف قيام بعض المحررين في صحيفة "نيوز أوف ذا ورلد" الأسبوعي ذائعة الصيت بالتلاعب بالهاتف النقال لفتاة تدعي "ميلي دولر" وقاموا بمسح رسائل مسجلة عليه .. كانت "ميلي " قد اختفت من منزلها وقيام المحررين (بمساعدة بعض عمال الأمن في شركة الهاتف) بمسح الرسائل أعطي أملا زائفا لأهلها وللشرطة في أنها مازالت علي قيد الحياة وفي الحقيقة أنها قُتلت بعد وقت قصير جدا من أختفاءها وتم العثور علي جثتها بعد ذلك بشهور.
كان هذا أول خيط كشفته عنه صحيفة "الغارديان" في يونيو عام 2011 توالت بعده الاحداث ولم تتوقف حتي الساعة ".
تتابعت خيوط "المؤامرة " لتغزل وتنسج بيتا مثل بيت العنكبوت أسود .. قاتم .. مخزي .. وقاتل…  
قائمة الضحايا التي بدأت باسم فتاة اسمها "ميلي" اتسعت وتوسعت لتضم الممثلة الشهيرة انجلينا جولي وبراد بيت واريكسون المدير السابق لمنتخب انجلترا ووين روني نجم فريق مانشستر يوناتيد ووالد اللاعب الشهير ديفيد بكهام وأحد أعضاء العائلة المالكة الذي لم يذكر اسمه لاسباب قضائية بسبب صغر سنه وغيرهم
كثيرين .
الكشف عن تنصت محرري "نيوز أوف ذا ورلد" علي هاتف الفتاة "ميلي دولر" التي تم العثور علي جثتها قتيلة عام 2002 أدي بعد أسابيع قليلة من تكشف الفضيحة إلي إغلاق الصحيفة الشهيرة "نيوز أوف ذا ورلد " بعد مرور 168 عاما علي صدورها .
لم يكن حدثا عاديا او عرضيا أن تُغلق صحيفة بريطانية ذائعة الصيت أبوابها بعد مرور 168 عاما عليها . لم يحتاج الأمر لحصار مقر الجريدة ... لم يخرج أحد عليهم بالسيوف والجنازير وقنابل المولوتوف . لم تغلق الصحيفة أبوابها بأمر قضائي ولا بأمر من رئيس الحكومة ولا بأمر من جلالتها ....ولكنها توارت خزيا وخجلا من أن بعضا من محرريها تلصصوا علي هاتف نقال لمراهقة من عامة الشعب.
إخلال مخزى بالمهنية والمصداقية قامت علي إثره الشركات المعلنة بسحب تعاقدها مع الصحيفة وطالب بعده السياسيون بضرورة التحقيق في قضية التلصص وأخلاقيات الإعلام .
ظلت النيران التي اشتعلت بعود ثقاب تأكل في طريقها الأخضر واليابس في أمبراطورية الملياردير الأسترالي الشهير روبرت مردوخ. لتطال في نهاية المطاف ربيبته وابنته الأثيرة "ربيكا بروكس" التي أجبرها "الخزي " علي الاستقالة بصفتها مسؤولة التحرير في الصحيفة. وقدم مردوخ لأهل "ميلي" مليونين من الجنيهات الاسترلينية تعويضا لهما عن الألم الذي تسبب فيه محرروه بالاعتقاد خطأ أن ابنتهما مازالت علي قيد الحياة. خرج مردوخ نفسه ليعلن آسفه واعتذاره لوالدي "ميلي" ولأي شخص تألم أو تضرر من التجسس الذي ارتكبه الصحفيون الذين يعملوا لديه. ونُشرت اعتذارات مدفوعة الأجر في جميع الصحف ودفع مردوخ مجددا ملايين الجنيهات لقاء تسويات مع الضحايا حتي لا يقاضونه.
لكن ذلك لم يكف ف "ربيكا بروكس" كانت أيضا صديقة مقربة لرئيس الوزراء ديفيد كاميرون وقيل أنهما في مرحلة ما من تاريخ علاقتهما الوثيقة تبادلا ما يزيد علي ثلاثين رسالة نصية في يوم واحد علي هواتفهما.
وليس ذلك فحسب لكن "أندي كولسون" الذي كان مستشارا إعلاميا ل "كاميرون" وقت كشف الفضيحة كان يعمل مديرا للتحرير في الصحيفة المنكوبة..
فهل غض "كاميرون" الطرف علي ما يحدث في امبراطورية مردوخ من فساد وإفساد لحياة العامة من الناس في مقابل تأييد الصحف التي يديرها مردوخ -وهي كُثر- لحزب المحافظين وزعيمهم "كاميرون" هل كان هذا هو ثمن الدخول إلى عشرة داوننغ ستريت ؟
أسئلة صعبة بدأت تغلي في أروقة البرلمان في ويستمنستر ويزداد موقف رئيس الوزراء حرجا كل يوم. لم يتجاهل كاميرون ما يحدث حوله ويتصرف كأن شيئا لم يكن.
ولم يكن بوسعه في النهاية سوى أن يخضع للضغوط ليبرأ ساحته. أُجبر كاميرون علي أن يكلف اللورد "بريان ليڤيسون" وهو قاض رفيع المستوي بإجراء استجواب مهني واسع النطاق بالتوازي مع التحقيقات الجنائية.
كان علي لورد ليڤيسون أن يجري تحقيقا في ثقافة وممارسات وأخلاقيات الإعلام وأن يبحث تحديدا في العلاقة بين الصحافة والشرطة -التي ارتكبت مخالفات بغض الطرف - وعامة الناس وإصدار توصيات حول مستقبل الصحافة وتنظيم العمل الصحفي.
علي مدي سنة كاملة حقق لورد ليڤيسون وفحص مئات وآلاف الأوراق والأدلة والبراهين .. استمع إلى شهادات وشكاوي من كل من كان له علاقة أو يظن أن له علاقة بهذه الفضيحة التي سُميت "مردوخ غيت" .
وقد مَثل "كاميرون" - نفسه- أمام لجنة اللورد ليڤيسون في إطار هذه التحقيقات وأذيعت الجلسات علي الهواء مباشرة كي يري الناس كيف يتعلثم "كاميرون" أمام القاضي ويحكموا بأنفسهم إن كان قد ارتكب أخطاء فادحة بعلاقته الحميمية مع روبرت مردوخ وربيبته ربيكا بروكس وبتعيين مستشار إعلامي ( آندي كولسون ) ليس اهلا للثقة اتضح فيما بعد تورطه في ارتكاب جريمة تلصص علي الهواتف النقالة لاثنين من وزراء الداخلية السابقين وهما تشارلز كلارك وديفيد بلانكت.
لم يكن المشهد سعيدا بكل تأكيد. فالصحافة البريطانية كانت دوما تتفاخر بأن لها من القواعد المهنية والتحريرية ما يجعلها بحق سلطة رابعة في البلاد ..وعلي مدي سبعين عاما لم تشهد أروقة صاحبة الجلالة سوي سبعة تحقيقات فقط بهذا النمط.
نال تقرير لورد ليڤيسون من مصداقية الصحافة البريطانية الكثير وخرجت من تحت يديه مثخنة بالجراح. والرجل لم يتراجع عن مهمته لم يهتم ولم تأخذه شفقة ولا رحمة كان مثل الجراح الذي بين يديه مريض يعاني من ورم سرطاني متوغل ... فساد .. رشوة موظفين عموميين تنصت علي هواتف الناس وعرقلة سير العدالة وتجاهل حقوق الأفراد وخصوصياتهم من أجل الحصول علي قصة مثيرة.
لكن التقرير برأ "كاميرون " من تهمة المتاجرة بالنفوذ السياسي من أجل الحصول علي دعم مردوخ وإمبراطورية الإعلامية بعد أن لقنه درسا لن ينساه بضرورة التعامل من الصحافة من بعيد ودون الخوض في علاقات مقربة من أروقة الصحافة.
لم تنته مهمة قاضي الاستئنافصاحب الصيت اللامع عند هذا الحد. فالعلاج الممتد من أبجديات العمل الجاد لم يقتنع لورد ليڤيسون بما يسمي بالرقابة الذاتية التي تمارسها المؤسسات الصحفية. فأوصي بوضع "قانون منظم" للعمل الصحفي وهيئة تكبح جماح الطموح المرضي لبعض الصحفيين وجنون صاحبة الجلالة. فجاء باقتراح الميثاق الملكي وهيئة الرقابة المستقلة.
كلفوا الرجل بالمهمة وأتمها هو علي خير وجه وألقي بالكرة في ملاعبهم. وكان عليهم أن يختاروا ... صحافة حرة طليقة لا يقف أمامها شيء حتي حدود خصوصيات البشر والتلاعب بحياتهم الخاصة أو صحافة مقيدة مرتجفة اليد لا تقوي علي الانتقاد والإشارة إلى مواطن الخلل.
لن ينتهي الجدل بصدور الميثاق الملكي وتشكيل الهيئة الرقابية ولن يتراجع أباطرة الصحافة البريطانية عما أعتزموه. فلماذا يتحمل الجميع وزر قلة قليلة اخطأت وتقف اليوم أمام القضاء الجهة الوحيدة التي لها الحق في أن تحاسب من أخطأ وأجرم.
لا يوجد أسود وأبيض ولا حلول جاهزة .الحل في النقاش المجتمعي الذي يشارك فيه الجميع. فهكذا تبني الديمقراطيات العريقة دولة المؤسسات.
ضغوط ومطالب تمارسها سلطة التشريع الممثلة للشعب علي سلطة التنفيذ التي تتصرف بمسؤولية  فتكلف بدورها سلطة القضاء حتي يعلم الجميع من المخطئ ومن المصيب. ... وكل ذلك من أجل احترام "ميلي" رمز المواطن حتى وإن كان غادر دنينا الي الحياة الأخرى.
   

الأحد، 22 ديسمبر 2013

المتشددون يغزون مقاعد الدراسة في بريطانيا




كيف تسلل المتشددون إلى أروقة الجامعات البريطانية وأجبروا النساء علي الجلوس في المقاعد الخلفية 

من الصعب أن يتخيل القارئ في العالم العربي أن تثير قضية الفصل بين الجنسين الجدل في بلد مثل بريطانيا. فالكثيرون في العالم العربي يعتقدون أن مثل هذا القضايا لم تعد موجودة أصلا في الغرب وهناك من يظن أن الاختلاط في الجامعات الاوروبية مباح على الغارب حتي في غرف نوم المدن الجامعية وهو تصور مغلوط برمته. فالجامعات البريطانية تحكمها ضوابط صارمة في الكثير من مناحي الحياة الجامعية ومقاعد الدراسة وبالتأكيد في المدن الجامعية ومن يخرج عن هذه القواعد لا يسلم من المُسألة ولا يأمن من العقاب. 
غير أن الجدل الدائر في الجامعات البريطانية الآن والذي وصل إلى أعتاب داوننج ستريت وأستدعي تصريحا قويا من رئيس الوزراء "ديفيد كاميرون" أوضح فيه بجلاء أن لديه رأي ثابت في قضية الفصل بين الجنسين في مقاعد الدراسة الجامعية وأنه ليس من المقبول أن يملي أي متحدث في منتدي جامعي إرادته علي الحياة الجامعية التي تتمتع بتقاليد راسخة في حرية التعبير وخاصة في المؤسسات التعليمية.   
لم يكن التصريح الذي جاء من أكبر المؤسسات التنفيذية في البلاد الاول في القضية ولم يكن الأخير أيضا بل جاء ليفتح فيضا من التعليقات والتصريحات في الدوائر الجامعية وخارجها تراوحت ما بين الدهشة والاستغراب ومرورا بالشجب والاستنكار وانتهاءا بالتظاهر خارج المباني الجامعية بلافتات تندد ب  "الفصل العنصري القائم علي أساس الجنس"
كان من الممكن لأي رئيس حكومة غربية أن يفلت بهذا التصريح ويسمع الكثير من المديح أو حتي التأييد والموافقة على ما يقول. لكن بريطانيا صاحبة التقاليد العتيدة دائما ما تعود إلي القوانين والقواعد. فالقوانين لم تُسن لتُخرق ولم تُوضع كي تُنتهك إنما هي الفيصل في النزاعات والخلافات كبيرة كانت أم صغيرة.  والقوانين تشير إلى أن من حق المؤسسات الجامعية أن تطبق "طواعية" الفصل بين الجنسين في بعض المناسبات داخل الحرم الجامعي كما أكدت "نيكولا دانريدج" الرئيسة التنفيذية للجامعات البريطانية. والتي أصرت علي أن الجامعات يجب ألا تفرض مبدأ الفصل فرضا قسيرا لكنها يمكن أن تسمح بالفصل إذا ما ابدي المشاركون في ندوة أو تدريب ما رغبة في ذلك. 
لكن القوانين والقواعد الجامعية ليست هي الحاضرة في هذا الجدل فحسب فمن يعرف المجتمع البريطاني حق المعرفة يعلم تمام العلم أن الفصل بين الجنسين مبدأ ثابت وأصيل في كثير من المؤسسات الجامعية والمدرسية أيضا. وأنا شخصيا أتذكر عندما كنت أقوم باختيار مدرسة لابنتي فوجئت بأن غالبية المدارس التي تتمتع بسمعة جيدة في المجال الاكاديمي والتربوي مدارس منفصلة ونفس الحال بالنسبة للاولاد. فكثير من التربويين في بريطانيا يؤمنون بأن الفصل بين الاولاد والبنات في المراحل الدراسية الاولي يعود بالفائدة على الأطفال ذكورا كانوا أما أناثا.  كما أن هناك العديد من الكليات النسوية في بريطانيا التي تتمتع بسمعة أكاديمية ممتازة لكن ذلك راجع الي التقاليد البريطانية العتيقة التي كانت تحرم البنات فيما مضي من قسط وافر من التعليم فتحولت هذه المؤسسات التعليمية إلى مراكز تنوير ودعوة لمنح الفتاة قسطا عادلا من التعليم يناهز أقرانها من الذكور. 
كان من الممكن أن يبقي الجدل والنقاش في أروقة الجامعات والمدارس وبين ضفاف الدراسات التربوية والنسوية إذا ما جاء الحديث عن الفصل في المقاعد الجامعية في سياقه الطبيعي لكنه لم يكن كذلك.  
كانت البداية مع تقرير أصدرته مؤخرا هيئة تطلق علي نفسها اسم "حقوق الطالب" اشار إلى أن مايزيد على ربع الزيارات الأكاديمية التي يقوم بها متحدثون "إسلاميون" إلى الجامعات البريطانية ينتج عنها فصل بين الفتيات والشباب في أروقة الجامعة. 
تلقفت بعد ذلك الصحف ذات التوجهات اليمينية مثل ديلي ميل الموضوع ونشرت صورا لندوة استضافتها جامعة ليستر في فبراير الماضي تحت عنوان "دورة تدريبية على الدعوة الإسلامية" ظهر فيها القاعة وقد احتل الرجال المقاعد الامامية فيما تُركت المقاعد الخلفية للنساء. نشر الصورة التي لا تختلف كثيرا عن مقاعد الدراسة في القاهرة أو بني غازي أو حتي صنعاء أثار الكثير من الاستهجان: فكيف تُجبر المرأة في بريطانيا البلد صاحب التقاليد العريقة في الحفاظ على حرية الرأي والتعبير والتي تنادي بالمساواة - على الجلوس في المقاعد الخلفية وأين ؟ في قاعة دراسية في أحد أكبر الجامعات البريطانية؟ 
 تحت ضغط الهجوم في الصحافة البريطانية اضطر المتحدث في هذه الندوة بعينها"سليم شاغاتي" الذي ينتمي إلى هيئة تطلق على نفسها "الاكاديمية الاسلامية للتعليم والبحث" في الدفاع عما بدا في الصورة من تميز ضد المرأة وقال إن النساء المسلمات اللاواتي حضرن الندوة كان من الممكن لهن الشكوي إذا ما كن قد شعرن بأن ظلما قد لحق بهن. مضيفا أنه لابد وأن الصورة التقطت في بداية الندوة قبل امتلاء القاعة بالنساء.
لم يقف دفاع "شاغاتي" عند هذا الحد فقد احتمي بدوره بالقوانين والقواعد مشيرا إلى أن منظمي الندوة استشاروا لجنة حقوق الانسان للحريات والمساواة التي (أي اللجنة) أفادت بأن ما قامت به الندوة من فصل بين النساء والرجال في إطار القانون طالما تم توفير منطقة بها مقاعد مختلطة لمن يرغب في ذلك ( وهو ما لم يحدث واقعيا بالطبع ). ولم يقف "سليم شاغاتي" عند هذا الحد بل قال إن على ديفيد كاميرون أن يقوم باداء "فروضه المدرسية" واستذكار القواعد الخاصة بهذه الموضوع بدلا من أن يحاول التربح مشكلة غير موجودة أصلا".
لكن هذا الدفاع من الهيئة المسماة "الاكاديمية الاسلامية للتعليم والبحث" لم يمنع الكثير من اللغط حولها حيث تم منع الأكاديمية من إدارة نقاش تحت عنوان " هل هناك رب؟ " كان من المفترض أن تستضيفه كلية لندن. وطلبت فيه أيضا الفصل في المقاعد بين الجنسين. غير أن نفس الاكاديمية التي قيل إن عددا من أعضائها يتبنون طرحا متشددا خاصة فيما يتعلق باوضاع المرأة تم السماح لأحد أعضائها مجددا بدخول جامعة ليستر لكن أحدي الصور لمدخل القاعة التي استضافت الندوة والتي اظهرت بوضوح ضرورة دخول "الأخوة" من جانب و" الأخوات" من جانب أخر أثارت الكثير من اللغط وأجبرت إدارة الجامعة على التأكيد على عدم تكرار هذا النهج في الفصل بين الجنسين والتحقيق مع "الجماعة الأسلامية" أحدي الجامعات الطلابية في حرم الجامعة والتي تفاخر بتطبيق مبدأ الفصل بين الجنسين. 
لم يفلح دعاة الفصل بين النساء والرجال في مقاعد الدارسة الجامعية في التمترس طويلا وراء القواعد التي جعلتهم يستخدمون المبادئ التي وضعت من أجل حرية التعبير لغرض الحد من حرية التعبير. ولم يفلحوا كذلك في اقناع مناؤيهم بأن هذا القاعدة تستخدم لاسباب عقائدية وهو ما تحرص عليه الهيئة العليا للجامعات البريطانية كمبدأ أصيل. 
فبعد أن قالت الهيئة العليا للجامعات الشهر الماضي إن الجماعات الدينية الاصولية ( والتي تضم في هذه الحالة المجتمعات المسلمة) من حقها أن تمارس الفصل بين الجنسين في الندوات والاجتماعات العامة التي تعقد في أروقة الجامعة. عادت - تحت الضغط السياسي والاعلامي - لتعلن أنها ستقوم بالعمل مع لجنة حقوق الانسان للمساواة بغرض مراجعة القواعد الخاصة بالفصل بين الجنسين والعمل على تعديلها حتي لا تكون مجحفة بأي صورة من الصور للمرأة. 
وزاد ديفيد كاميرون في التأكيد علي أنه متمسك بكل ما اعلنه في هذا الشأن لكنه أكد في نفس الوقت علي أن هذا الموقف الرافض للفصل بين الجنسين في أروقة الجامعة لا ينسحب بأي حال من الأحوال على دور العبادة ولا يقصد به أي إساءة لمعتقد. وتبعه تصريحات من عدد من الساسة المعروفين بتأييدهم للمجتمع المتعدد الثقافات مثل "جاك سترو" القطب الكبير في حزب العمال المعارض والبروفيسير طارق رمضان أستاذ الاسلام الحديث في جامعة اكسفورد الذي أكد على أن لا يوجد نص قرآني أو حديث شريف يلزم بالفصل بين الجنسين في مقاعد الدارسة.  ووسائل الأعلام لم تتوقف عند تذكرة الناس بالمدرسة الإسلامية التي فرضت على البنات الجلوس في المقاعد الخلفية وسمحت للولاد فقط بالجلوس في المقاعد الأمامية. 
لم ولن ينتهي الجدل في هذه القضية عند هذا الحد فمن يرغبون في فرض الفصل بين الجنسين ووضع المرأة في الصفوف الخلفية يستغلون مناخ التعددية الثقافية التي تباهي به بريطانيا كثير من الدول الأوروبية ويلعبون بقواعد حرية الرأي والعقيدة لصالح التميز ضد المرأة. لكن لن يبقي الأمر طويلا كي يكتشف المدافعون عن الحريات أن الأمر لا يعدو كونه "حق أريد به باطل"



الأحد، 17 نوفمبر 2013

الجالسة في القطار

الجالسة في القطار
جلست مطرقة ف صمت ...زمت شفتيها .. طلاء الشفاه فاقع اللون جعل شفتيها تبدو اكبر من حقيقتها.
جميع عضلات جسدها تئن من فرط التعب.  غطست ف الكرسي الضيق في عربة المترو الرمادية اتقاء للتلامس مع جارها مفتول العضلات الذي يحتل كرسيه ونصف كرسيها في تبجح.
سرحت في أضواء المصابيح الكاشفة التي تطل من السقوف كما لو كانت شموسا غبية لا تعرف موعد الشروق فجاءت الي سقف عربة مترو بالخطأ.
تبحث داخل بحر ذاكرتها السرمدي عن حبل سري يربطها بعالم الأضواء الاصطناعية وألوان اللوحات الإعلانية الذي يخنق بقسوة روحها الضائعة .
لا تعي تفاصيل الهمهمات المبهمة التي تخرج من أفواه الكتل البشرية الخانقة حولها.
محور تركيزها في صوت البوم الذي ينعق من آن لآخر يعلن نهاية فصل من عذاب رحلتها الأبدية في هذه العربة الصفيح وبداية فصل آخر.
تعرف المحطة التي عليها أن تنزل فيها ما برحت صديقتها توصيها بالاسم العجيب الذي فشلت في مقاربته باي شئ تعرفه تكرر في نفسها مرارا "كلاب هام جانكشن .. كلاب هام جانكشن"
يا الله  ألم يجدوا اسما أفضل من هذا.
لم يكن عليها في قريتها المختبئة وراء الزمن سوي أن تقفز في مؤخرة العربة الصغيرة المكشوفة تحشر نفسها بين رفيقاتها وتثرثر معهن بصوت يكسر خجل الشمس الوردية.
تظل العربة تفجعهن بحركة قافزة علي الطريق الترابي المطعم بأحجار عنيدة. يضحكن معا مرة ويصرخن في صبر الألم مرات.
كانت تنظر في نهاية كل رحلة ..الجائزة. يد سائق العربة الخشنة الممدودة إليهن إشارة النزول.
تنتهك صاحبة الصوت المشنوق في سقف عربة المترو أذنيها بعنف "ذيس اذ كلاب هام جنكشن" 

الجمعة، 15 نوفمبر 2013

ليلي والذئاب


ليلي والذئاب ..
لعنة الختان تلاحق الفتيات في الغرب

لم يفهم المارة في أحد مراكز التسوق المزدحمة في لندن لماذا انهارت "ليلى حسين" الشابة الصومالية الجميلة باكية والحسرة تعتصر قلبها. وقفت وفي يديها بعض الاوراق التي تثبت أن ما تركته وراءها في بلادها من إرث ثقيل يلاحقها مثل الكابوس في هذه البلاد البعيدة.
وقفت "ليلى" في هذا الصباح أمام المرآة وارتدت ثوبا فضفاضا بالوان تضاهي ألوان الشمس واعتمرت على رأسها شالا إفريقيا أنيقا. بحثت في داخلها على حفنة من الشجاعة كي تواجه الحقيقة كما هي دون أي رتوش. لكن التجربة اثبتت لها أن الحقيقة ابشع بكثير مما تصورت ومما تحتمل.
جاءت "ليلى" في الصباح إلي أحد مراكز التسوق وفي يديها أوراق إلتماس زائف تطالب المارة بالتوقيع عليه تأييدا لختان الاناث في بريطانيا باعتبار أنه جزء من الثقافة والتقاليد الصومالية والاسلامية. لم تغرق كثيرا في التفاصيل لكنها كررت علي مسامعهم كلمة "بتر" لتؤكد علي حقيقة ما تنطوي عليه هذه العملية. جاوبها المارة بالقول "نعم.. نعم".
في خلال نصف ساعة فقط تمكنت "ليلى" من الحصول على تسعة عشر توقيعا علي إلتماس يؤيد عملية ختان الإناث باعتبارها جزءا من الثقافة الصومالية الاسلامية. شخص واحد فقط رفض التوقيع وعدد بسيط من الموقعين كتبوا تعليقا بجوار التوقيع قالوا فيه إنهم يدركون أن هذه العملية خطأ لكنهم يؤيدونها طالما أنها جزء من الثقافة الاصلية التي تنتمي اليها "ليلى".
انهارت "ليلى" لم تستطع اكمال هذه التجربة الغريبة. كيف يمكن لأي شخص أن يؤيد "بتر" جزء حساس من جسد طفلة لمجرد مزاعم بأنه جزء من الثقافة الاصلية لعرق أو دين ما ؟ عايشت ليلى البالغة من العمر اثنين وثلاثين عاما بنفسها عندما كانت طفلة تجربة التعرض للانتهاك الجسدي وتروي في وثائقي للقناة الرابعة في التلفزيون البريطاني كيف أن أربع نساء قمن بأجراء عملية الختان لها عندما كانت في السابعة .. "كنت واعية تماماً لما يحدث" تروي ليلى في ألم " كنت أشعر بكل قطع وحشي انتهك جسدي ظللت أصرخ من فرط الألم حتى اسودت الدنيا في عيناي وفقدت وعيي". أسست "ليلى" قبل أعوام جمعية "بنات حواء" في محاولة منها للتعريف بمخاطر هذه العادة المدمرة لحياة الفتيات لكنها تشعر أن جهودها في ملاحقة المسؤولين عن تلك الممارسة في بريطانيا غير مجدية.
وعلي الرغم من أن القانون البريطاني جرّم ختان الإناث منذ عام الف وتسعمائة وخمسة وثمانين مازالت الأرقام والإحصائيات تؤكد أن مثل هذه العمليات تجري في بريطانيا. وتشير الإحصائيات من المستشفيات والمراكز الطبية إلي أن حوالي ستة وستين ألف امرأة في بريطانيا أُجريت لهن عملية الختان ومعظم الضحايا ينتمين للأسر المهاجرة من الصومال ومصر والسنغال والسودان. وتتكشف معظم هذه الحالات لدي معاودة المراكز الطبية من مضاعفات الختان مثل بلل الفراش ومشكلات الدورة الشهرية والولادات المتعسرة ناهيك عن المشكلات الجنسية التي غالبا ما تحجم النساء من هذه العرقيات عن ذكرها.
خلال سنوات طويلة من العمل في برامج المرأة روي لي عدد من أطباء أمراض النساء والتوليد العرب الذين يعيشون ويعملون في بريطانيا كيف يواجهون حالات نساء اجريت لهن عملية الختان تسبب لهم صدمة في غرف التوليد أو لدي الكشف عليهن أثناء الحمل والولادة وكيف أن الجهاز التناسلي الخارجي بأكمله يكون مبتورا في حالات ما يسمي بالختان الفرعوني الرائج لدي الأسر الصومالية والسودانية. لكن تظل هذه الحالات مسكوتا عنها. فلا يوجد ما يلزم الأطباء والقابلات العاملين في بريطانيا بالابلاغ عن هذه الحالات.

ولا يقتصر الأمر على النساء اللاواتي جئن كمهاجرات إلى بريطانيا وأجريت لهن عملية الختان في بلدانهن الأصلية لكن الأمر أصبح يتهدد الجيل الثاني من الفتيات والبنات اللاواتي يولدن في أسر مصرية أو سودانية أو صومالية. ويقدر تقرير رسمي قام باعداده مجموعة من أخصائي الصحة في انجلترا وويلز من أن نحو اربعة وعشرين الف فتاة وطفلة يعشن في بريطانيا قد تجري لهن عملية ختان سواء داخل بريطانيا أو في بلدانهن الأصلية التي ينتمي إليها أسرهن. حيث لا توجد هيئة رقابية حكومية لملاحقة من يروجون لهذه الممارسة.
وتقول "جانيت فايل" الاستشارية لدى الكلية الملكية البريطانية للقابلات إنه لا توجد هيئة حكومية تلاحق مرتكبي هذه الجريمة. وتطالب "جانيت فايل" باعتبار الختان نوع من الإساءة "الاجرامية" للبنات يعاقب المسؤولون عنها بمقتضي القانون كما تطالب المستشارة "فايل" التي تعرض هذا الأسبوع التقرير الخاص بختان الأناث في بريطانيا أمام البرلمان البريطاني بإلزام العاملين في القطاع الصحي بالإبلاغ عن أي حالة أي فتاة تجري لها عملية ختان أو حتى الفتيات اللاواتي قد يكن عرضة لمثل هذه العملية. والذهاب الي ابعد من ذلك وانتهاج سياسة توعية بمخاطر الختان الصحية وآثارها النفسية والجسدية على البنات كتلك الحملة لمواجهة مرض الإيدز.
لكن الطريق ليس ممهدا أو سهلا.  وأكبر عقبة أمام وقف هذه الممارسة في بلد يدعي أنه صاحب أعرق الديمقراطيات فى العالم يكمن في الديقمراطية نفسها التي تخشي ما يسمي ب "الحساسية العرقية والدينية". فبريطانيا التي تضم اليوم مهاجرين من كل الأعراق والتي أصبح الدين الإسلامي فيها قبل عامين الديانة الثانية بعد المسيحية حيث يقارب عدد المسلمين ثلاثة ملايين نسمة - تخشى ما قد ينظر اليه علي أنه تدخل من الدولة في شأن عرقي أو إسلامي.
وإلي أن يدرك القائمون علي هذه السياسات أن ختان الإناث ليس من الأسلام في شيء وأنه جريمة لا تغتفر تحت أي مسمي عرقي أو ثقافي ستبقي الذئاب تلاحق ليلى.

  

الأحد، 3 نوفمبر 2013

أنا "مالالا يوسف"


لا يخيب الغرب أبدا سوء ظني فيه عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع قضايانا .. أقصد قضايا العالم العربي والأسلامي. فهو أما مغيب عنها أو يتعامل معها بمنطق المصلحة المباشرة وحينما يهتم بها يكون ذلك تعاملا سطحيا يكاد يرقي الي درجة " العبط". وأحيانا بل كثيرا ما أشك في أنه يتعمد التعامل بهذا الشكل إما استسهالا أو لنقص في الادراك والفهم أو الاثنين معا. 
لا يغرق كثير من المعلقين الغربيين أنفسهم في تفاصيل المشهد العربي والاسلامي مهما كانت حيوية ومهمة. وغالبا من يكون انتقائيا في التفاصيل التي يتعامل معها مكتفيا بالتفاصيل التي تريحه وتريح ضميره أو تظهره بمظهر إنساني يتواءم مع ما يدعي أنها مبادئ يؤمن بها حتي لم كان ذلك على حساب القضية الاصلية. 
ولا أجد هنا للتدليل على "سوء ظني" بالغرب أكثر من قضية الفتاة الباكستانية "مالالا يوسف ضيا" التي نجت من محاولة اغتيال علي يد حركة طالبان باكستان. وكان مسلحون ينتمون الي طالبان قد أطلقوا الرصاص العام الماضي علي "مالالا" البالغة الأن من العمر ستة عشر عاما وهي في طريقها الي المدرسة في وادي سوات في مشهد درامي بالغ التأثير . الكثيرون يعلمون القصة وقرأوا عنها وتابع الملايين علي شاشات التلفزيون في العالم بأسره بقلوب لاهثة عملية نقل "مالالا" من باكستان الي لندن لتلقي العلاج في أكبر المستشفيات البريطانية وكتب عشرات الكتاب والمعلقين عن شجاعة الفتاة التي وقفت في وجه حركة طالبان وكادت أن تدفع حياتها ثمنا لدفاعها عن حق الفتيات والنساء في التعليم وهو الأمر الذي تنكره وتبغضه حركة طالبان الأفغانية. 
بعد أن تلقت "مالالا" الكثير من المديح والاهتمام الذي هي أهل له وبعد أن تماثلت للشفاء في مستشفي الملكة اليزالبث في مقاطعة برمنجهام منحت هي وأسرتها بيتا وملجأ في بريطانيا وفرصة لتكمل تعليمها. 
يبدو كل هذا عاديا ومستحقا لفتاة أثبتت شجاعة نادرة في قضية حيوية هي قضية تعليم البنات. لكن الامر لم يتوقف عند هذا الحد فاصبحت "مالالا" ضيفة علي عشرات البرامج والتوك شو وخطيبة أمام الامم المتحدة في عيد ميلادها ومتحدثة في جمع من ألف شخص تتقدمهم الملكة اليزابيث في جامعة أدنبرة حيث تم منحها درجة الماجيستر الفخرية ومنحت جائزة من معهد كارنيجي الامريكي ووضعتها مجلة تايم الامريكية في قائمة أكثر مائة شخصية مؤثرة في العالم واستقبلها الرئيس الامريكي باراك أوباما وزوجته ميشيل في البيت الابيض كما تم ترشيحها لنيل جائزة نوبل للسلام. 
وأخيرا ظهر في المكتبات البريطانية نسخة من سيرتها الذاتية.. نعم سيرة ذاتية تحمل أسم " أنا مالالا يوسف ضيا" واعذروني هنا اتوقف قليلا كي اتسأل كيف يمكن أن يكون لفتاة في السادسة عشرة من عمرها سيرة ذاتية ؟ ما هو الانجاز الذي تمكنت من تحقيقه خلال ست عشرة سنة قضت نصفهم رضيعة وفي الحضانة وفي سنوات المدرسة الاولي ؟ 
غضب الكثيرون من عدم منح جائزة نوبل للسلام واعتبروا أن الجائزة مسيسة لأنها لم تمنح لمالالا .. وهي كذلك بالفعل. لكن ليس لانها لم تمنح لمالالا ولكن لانها منحت لمنظمة الاسلحة الكيميائية قبل أن تقوم بأي انجاز اساسا. افهم أن تمنح مثل هذه الجوائز لشخص مثل نيسلون مانديلا قضي عمره يدافع عن الحريات في بلده وقد افهم أن يكتب أوباما سيرته الذاتية لانه أول رئيس من أصول أفريقية يرأس الولايات المتحدة ولكن ما الذي فعلته مالالا في ستة عشر عاما ليتم ترشيحها لجائزة نوبل للسلام؟ ما هو الانجاز الذي يمكن لمراهقة في سني عمرها أن تحققه؟ 
أرجوكم توقفوا قليلا قبل أن تتهمونني بأني أقلل من قيمة هذه الفتاة التي تتحلي بشجاعة نادرة. علي العكس أنا أجلها واحترمها واعتقد أنها مثال رائع للفتيات والنساء والدفاع عن حق أصيل هو الحق في التعليم الذي قضيت أنا شخصيا نصف حياتي المهنية في الدفاع عنه. ولكنني أتوقف أمام الغرب الذي يلتقط نماذج معينة لوضعها في مصاف النجوم ويغرق في الحفاوة بها دون النظر أو الاكتراث بالصورة الكاملة. 
فلماذا لم يتحدث أحد عن رفيقات مالالا اللواتي يتعرضن كل يوم للقمع علي يد المتشددين في حركة طالبان وغيرها؟ لماذا لا تنقذهن طائرة مجهزة للعلاج من رصاصات غادرة تودي بحياتهن وتنقلهن للعيش في بريطانيا؟ لماذا لا يقفن أمام العالم ليتحدثن عن شجاعتهن في مواجهة الأرهاب؟ 
لماذا لا يتحدث الغرب عن هؤلاء الفتيات اللاواتي بلا هوية ولا اسم ؟ لماذا لا يتحدث عن عشرات الأبرياء الذين يقتلون بدون ذنب كل يوم في طلعات الطائرات الامريكية بدون طيار ؟ لماذا لا يري الغرب وجوه هؤلاء ؟ وما الذي فعله لمساعدة الحكومة الباكستانية لاستئصال شأفة الأرهاب بالتنمية البشرية والاستثمار الايجابي في الاقتصاد وليس في صفقات السلاح. 
نموذج "مالالا" يذكرني بنموذج الشابة اليمنية "توكل كرمان" التي اختيرت كي تنال جائزة نوبل للسلام العام الماضي. "توكل كرمان" خرجت في مظاهرات مثل عشرات بل مئات اليمنيات مجهولات الهوية وراء نقاب يطالبن بالعدالة والحرية. واثبتت بالفعل شجاعة نادرة في الوقوف أمام الظلم والديكتاتورية والفساد وضربت مثالا رائعا للفتيات اليمنيات اللاواتي يتحلين بشجاعة ورباطة جأش وجمال الروح والاعتزاز بالنفس حتي وإن كن يرتدين نقاب أوحجاب. 
ولا أخفيكم سرا أنني استبشرت خيرا بأن العالم التفت أخيرا لبلد اسمه اليمن تمزقه الصراعات القبلية والحروب الخفية للجماعات المسلحة والصراع بين السنة والشيعة في الجنوب ناهيك عن المشكلات المجتمعية الجمة التي يعاني منها هذا البلد الذي يرزح تحت وطأة الفقر والقهر والمرض وغياب الحريات. 
كنت انتظر من "توكل كرمان" التي التقيتها منذ سنوات في اليمن وهي صحفية شابة ثائرة-  أن تشمر عن ساعديها وتمد يديها التي اكتسبت قوة وصلابة باختيارها لنيل جائزة عالمية مرموقة فاصبحت مسموعة الكلمة في المحافل الدولية. كنت انتظر منها أن تتحدث عن معاناة المرأة اليمنية التي تحرم من التعليم في سن صغيرة وتجبر علي الزواج غير متكافئ فيما يعرف بظاهرة عرائس الموت. كنت اتمني أن تخوض حربا لتغير القوانين اليمنية لرفع سن الزواج. كنت انتظر منها أن تتحدث عن معدلات الوفيات للمرأة عند الولادة وهي الاعلي علي مستوي العالم بأسره. كنت انتظر أن تخوض توكل كرمان معركة "القات" الذي ينهب قوت الأسرة اليمنية. وقضايا كثيرة لابد وأنها تعرفها حق المعرفة وهي التي كانت تعمل في مهنة الصحافة ولابد أنها عايشت ذلك سنوات عمرها اكثر بكثير من صحفية مثلي زارت البلد مرتين فحسب. 
لكنها عوضا عن ذلك خاضت وتخوض كل يوم "حربا تويترية" دفاعا عن الاخوان وعن الرئيس المصري المعزول محمد مرسي وتهاجم عشية وضحاها الجيش المصري والفريق عبد الفتاح السيسي. والحقيقة أنني لا انكر علي أحد أن يتحدث في شؤون أي دولة أخري بما يشاء وأن يناصر ويساند أي طرف ويوجه انتقادات لمن يرغب ولكنني في الوقت نفسه لا أفهم كيف يتجاهل نفس الشخص قضايا بلده ومعاناة أبناء بلده. 
كنت اتمني بدلا من أن يجعل الغرب من "مالالا" رمزا أن يستثمر في قطاع التعليم للفتيات كنت اتمني من "مالالا" أن تعود الي وادي سوات كشهيدة حية تمشي علي قدمين وتطالب بلدها وحكومتها بافتتاح مدرسة بل سلسلة مدارس باسمها. كنت اتمني أن تشن "توكل كرمان" حملة لتغير القوانين المجحفة بحق المرأة اليمنية وتحاول أن ترفع الظلم عن بنات جلدتها بدلا من الدخول في معترك استقطاب سياسي في بلد أخر لن ينتهي في المنظور القريب.
أنا لا احب أن العب دور "عواجيز الفرح" الذي يحلو لهن أفساد أي بهجة. وسعادتي بوجود نماذج من قبيل مالالا وتوكل على الساحة الدولية كبيرة ولكن السؤال ماذا بعد ؟ ماذا بعد اغلفة المجلات العالمية وكتب السيرة الذاتية؟ ماذا بعد جائزة نوبل ودرجة الماجيستير الفخرية؟ هل سيتذكر العالم الغربي أن هناك نساء سوي توكل وفتيات غير مالالا ؟ أم إنه كتب علي هؤلاء النسوة أن يعانين في صمت ويقضين نحبهن في الظلام ويدفن في مقابر بلا شاهد ؟

السبت، 21 سبتمبر 2013

روان وأخواتها



الاسم : روان ...
الجنس : أنثي ..
 السن: ثماني سنوات
الجنسية:  يمنية
الحالة الاجتماعية: زوجة.. 
الجسد جثة هامدة نتيجة تمزق في الاعضاء التناسلية في ليلة الزفاف  أفضي الي الموت ..
أعرف "روان" ..أعرفها جيدا ... يمكنني أن اغمض عيني وأتخيل كل تفاصيل حياتها في بلدتها الصغيرة النائية .. كل التفاصيل بالألم بالفرح بالدموع بالضحكات بالخجل البرئ الغاطس في ثوب أسود يلتف حول ساقيها الصغيرتين وغطاء الرأس الأبيض الباهت اللون الذي يداري خصلات شعرها الأسود..
لا احتاج للكثير من البحث والتدقيق في جوجل وشبكة الانترنت لأعرف أين ولدت روان ومن هو أبوها ومن هي أمها ومن هم أخواتها فالحكاية تتكرر بشكل مفزع مثل أشباح الموت التي تطل في الليالي الباردة .  
هذا ليس مطلع رواية ولا مرثية لبراءة روان التي انتهكت علي فراش "زفاف" مشؤوم.
لكن روان شئنا أم أبينا  أصبحت اليوم مجرد رقم .. ضحية جديدة من ضحايا زواج الأطفال التي تقول أرقام الامم المتحدة أنه يغتال براءة 14 في المائة من الفتيات اليمنيات اللولتي يتزوجن قبل سن الخامسة عشرة و52 في المائة اللواتي يتزوجن قبل بلوغهن سن الثامنة عشرة عاما. قبل أن ينضجن جسديا وعقليا ونفسيا وعاطفيا.. والمشكلة أن ذلك يستتبع حرمان هؤلاء الفتيات من التعليم وفرص الترقي الاجتماعي. لكن هذه ليست كل الحكاية ...    
لن يقرأ أبو روان هذه الكلمات فهو لا يفقه من الحروف سوي اسمه الذي وقع به عقد زواجها ولا يعرف من الأرقام سوي من يعينه علي عد حفنة الدولارات الزهيدة التي باعها بها لرجل يكبرها بعقود. يمكنني أن أجلس هنا وأكتب عنه ما أشاء .. انعته بالنعوت واصفه بما أريد من التجرد من الأبوة من عدم الانسانية من أنه باع لحمه ودمه. لكنني بالتأكيد لن اعرف كثيرا عن معاناته وهو يقف صفر اليدين أمام عشرات الأفواه التي تطالبه بالطعام والمصروفات كل صباح. 
أنا لا أسوق الأعذار له ولمن مثله من الآباء  لكن الجهل يمكن أن يقتل.. يقتل بالمعني الحرفي للكلمة وعندما يكون أكثر من نصف الشعب اليمني تحت خط الفقر لا يمكن أن تلوم الفقراء علي فقرهم. وعندما يكون اكثر من سبعة وثلاثين في المائة من اليمنيين لا يفقهون أبسط قواعد الكتابة والقراءة لا يمكن أن تعول عليهم في فهم أن زواج طفلة في عمر "روان" سيقتلها فجسد طفلة في هذا العمر الغض لا يمكن أن يتحمل معاشرة زوجية فتموت الطفلة في ليلة الزفاف بتمزق بشع في اعضائها التناسلية ومن يسعدها الحظ في الإفلات من جحيم الليلة الاولي ستعاني حتما من النزيف حاد في الليالي التالية ومن تفلت من كل ذلك وتحمل طفلا ستموت وهي تلد ولهذا السبب تعد نسبة وفيات الامهات عند الولادة في اليمن من أعلي المعدلات ليس فقط في العالم العربي ولكن في العالم كله . وتشير آخر الإحصائيات الي أن 365 أم يمنية من بين كل مائة الف تنتهي حياتهن وهن يلدن . ولهذا العدد الكبير من الضحايا تفسير فالعرف - وليس القانون - في المستشفيات اليمينية مثلا لا يسمح باستقبال النساء الا اذا كن بمعية أي ذكر زوج أب أخ أو حتي ابنها الصغير . وهذا العرف ساري الي يومنا هذا ويعني أن المرأة يمكن أن تنزف حتي الموت قبل أن يسمح لها بمجرد الدخول من باب  المستشفي.  
وهناك أسباب آخري كثيرة ومنها حرمان الفتاة من التعليم بسبب تقاليد بالية لا تعول كثيرا علي تعليم البنت وتري مستقبلها في الزواج  وهناك ظروف منطقية احيانا مثل بعد المدرسة بمسافة كبيرة جدا عن البيوت أو وجود مدارس البنات مثلا في وسط الاسواق المزدحمة وبدون أسوار أوعدم توافر المعلمة الأنثي فيرفض الاب أن تتعلم البنت علي يد مدرس ذكر واحيانا يكون مجرد عدم وجود دورات مياه للفتيات سببا يجعل الاسرة تتراجع يوما عن يوم عن تعليم البنت وتفضيل مستقبل الزواج لها لتصبح أما جاهلة بدورها عاجزة عن حماية ابنتها من مصير مظلم كما كان مصيرها هي مظلما.  
والمجتمع اليمني يشجع بل ويبارك زواج الصغيرات حتي أن الفلكلور الشعبي يتحدث أن مزايا الزواج بالصغيرة . ناهيك عما هو سائد في كثير من المجتمعات العربية التي  تعتبر أن نضوج البنت فيسولوجيا هو مؤشر علي أنها "جاهزة" للزواج وهو خطأ فادح وجريمة كبري. فالبلوغ الفسيولوجي للفتاة لا يعني أبدا أنها ناضجة بما يكفي لتحمل المعاشرة الزوجية والحمل والولادة في سن صغيرة وأحيل الكلام هنا الي العلامة البروفيسور خالد خالد أستاذ أمراض النساء والولادة في جامعة كولشيستر البريطانية والذي ربطتني به علي مدي سنوات علاقة عمل وصداقة عائلية. والذي يؤكد في كل حديث اجريته معه عن هذه القضية أن البنت في مرحلة البلوغ تكابد الكثير من التغيرات الفسيولوجية التي لا تعرف حتي عنها الكثير وتعاني من عدم انتظام الدورة الشهرية ونقص في الكثير من المواد الاساسية لنمو جسم سليم. كما أن الحالة النفسية المصاحبة لمرحلة البلوغ الفسيولوجي تكون متقلبة بشكل كبير وتفاجأ البنت بأن كل من حولها يدفعها الي الزواج ومعاشرة رجل يكبرها بعشرات السنين.
دائرة جهنمية تجد الفتاة اليمنية نفسها تدور في فلكها وتدور بلا نهاية والكارثة أنه بمجرد وقوع أحدي هذه الحوادث يتم التستر فورا عليها فتجد العريس يفر هاربا خوفا من العقاب وأهل العريس يحاولون التخلص من جثة العروس الطفلة وأهل العروس يحاولون التستر علي الجريمة كي يهربوا من المسؤولية. لذا لم اتفاجئ أبدا بمحاولة أحد المسؤولين اليمنيين التستر علي جريمة قتل روان بالادعاء أنها علي قيد الحياة ولم تتزوج. أصلا. ولم أعبأ كثيراً بالتحقق من كون هذا الكلام صحيحا أم لا. فروان مجرد اسم ورمز وحالة حدثت أمس  وتحدث اليوم وستحدث غداً  ما لم يستيقظ أصحاب الضمير في اليمن ويوافقوا علي تغليظ العقوبات علي زواج القاصرات علي الاب وعلي العريس ورفع سن الزواج وجعل التعليم إجباري حتي سن الخامسة عشرة عل الاقل حتي لا تتكرر مأساة روان ويعود اليمن كما علمونا في الكتب يمنا سعيدا بجيل مستقبل اقل قتامة من الحاضر. 

الأحد، 15 سبتمبر 2013

الإعلامي والسياسي والحقوقي


                        
اعترف أنني شعرت بالصدمة للوهلة الأولي التي اختفت فيها ما تسمي بالقنوات الدينية وقناة خمسة وعشرين الناطقة باسم جماعة الأخوان المسلمين من على شاشات التلفزيون . فذاكرتي لا تسعفني بتذكر أني شهدت شيئا مثل ما حدث سوي ما حدث عام ألف وتسعمئة وستة وتسعين في بريطانيا وكنت شاهدا علي حدوثه من قريب. عندما قرر الشريك التجاري لهيئة الاذاعة البريطانية وقف بث التلفزيون العربي ل بي بي سي والذي كان مشروعا مشتركا بين الجانبين  . كانت الإدارة وقتها تتمتع - بمقتضيات التعاقد مع الشريك السعودي - باستقلالية تحريرية كاملة. وعلى ذلك قررت إدارة التلفزيون العربي وقتها إذاعة حلقة من برنامج بانوراما الشهير عن حقوق الإنسان في السعودية. كانت قناعة الإدارة البريطانية للقناة وقتها أنه لا يوجد ما يبرر ألغاء الحلقة من البرنامج المدرج علي جدول القناة وأن هذا يعني محاباة الشريك التجاري. وقف جميع الصحفيون يشاهدون البرنامج علي شاشات الإذاعة الداخلية ويطلقون لخيالهم العنان في ردود فعل الشريك التجاري السعودي لكن لم يدر بخلد أيا من كان أنه في اليوم التالي ستكتب نهاية أول تجربة تلفزيونية ناطقة بالعربية لبي بي سي . في منتصف الظهر قُطع الارسال وطُلب من الصحفيين والمحررين أن يتركوا كل شيء كما هو وأن يأخذوا متعلقاتهم الشخصية فقط. 
لكن ظروف إغلاق القنوات الدينية وقناة خمسة وعشرين تختلف كثيرا في تفاصيلها عن هذا الحادث وجاءت في أوج أزمة سياسية طاحنة وشاهد عشرات الآلاف عبر يوتيوب مقاطع فيديو لقوات الأمن وهي تقوم باعتقال العاملين في هذه القنوات بتهم لا يعرف أحدا ما هي وبدون أي حكم قضائي. علي أن ذلك يماثل ما حدث لقناة الفراعين وصاحبها توفيق عكاشة الذي تم مطاردته واعتقاله علي الهواء ومن ثم إطلاق سراحه دون أن يعرف أحد لماذا وكيف اُعتقل ولماذا أُطلق سراحه. 
ولا يعنيني هنا أن أتوقف أمام جدل قضائي لست علي دراية بتعقيداته وتفاصيله التي يمكن أن يتوه فيها الكثيرون لكني أتوقف أمام قيمة الاعلام وما يقدم في هذه القنوات وغيرها.
 أول مرة انتبهت فيها  لوجود القنوات الدينية كانت قبل نحو ثلاث سنوات. كنت أقوم بزيارة لبلدة صغيرة في صعيد مصر هي مسقط رأس أبي. لاحظت أن كل بيت زرته من بيوت أقاربي وعائلتي أولاد عمومتي كان الجميع بلا استثناء  يتطلعون إلى شاشة إحدي هذه القنوات. ولا أبالغ إن قلت أنني اكتشفت أن الجميع لا يداوم سوي على مشاهدة هذه القنوات والمسلسلات الدرامية. ولفت نظري وقتها أن إحدي هذه القنوات تقدم مفاهيم مغلوطة عن الشيعة. كنت عائدة لتوي من طهران في زيارة عمل وعندما حاولت تصحيح ما يقال لم يكترث أحد فى البيت لما أقوله كثيرا. بينما بدا أن الجميع واثقون أكثر فيما تقوله هذه القنوات التي تتاجر بتجارة رائجة للغاية "الدين". وخرجت وقتها بقناعة مفادها أنه  لا يمكن إلا يلتفت المصريون إلي شخص جالس أمامهم يتحدث عن الدين أو بالاحري يتظاهر بالمعرفة  لشؤون الدين. 
كان من الواضح أن هذه القنوات أدت الغرض الذي أراده لها نظام مبارك. الحديث في الدين ولا حديث في السياسة. ولذا لم يكن مستغربا أبدا أن هذه القنوات لم تكن تتحدث في السياسة قبل الثورة والحقيقة أنه ليس لدي توثيق كامل لما كانت تبثه هذه القنوات لكن المؤكد أنها كانت تتمتع بشعبية جارفة لدي قطاعات كبيرة من الشعب المصري وخاصة لدي الطبقة الشعبية لذا اعتمدت الخطاب الدارج الذي يصل فى كثير من الاحيان إلى الفجاج  كما أنها حققت - ولا شك - أرباحا خيالية إثر ذلك. 
ولم يكن مستغربا أن تدخل هذه القنوات بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير على خط السياسة والخطاب العام. فهي على أي الأحوال بدأت فى جني ما استثمرت فيه من شعبية. او بالاحري شعبوية. فأطلقت لنفسها العنان في الخطاب السياسي الممجوج الذي لا يستند إلى اي حقائق بل مجرد تمرير رسائل سياسية واجتماعية تغلفها طبقة هشة من التدين الزائف. واتسع النطاق لتصبح ما يسمي بالقنوات الدينية أداة طيعة للهجوم على الخصوم دون أي رابط أو رادع وأغرقت نفسها فى خطاب أقل ما يقال عنه أنه "مستفز وبذئ" . واعتمدت قناة الفراعين نفس السياسة تقريبا مع اختلاف الأسماء والوقائع. 
واحقاقا للحق فلم تكن هذه القنوات تغرد خارج السرد فيما ذهبت اليه ولكنها كانت الأكثر نشازا والأكثر قبحا. ربما لانها كانت تستغل ما لا يجب استغلاله " الدين". وقد شهدت مصر ومازالت كما هائلا من "التسيب الإعلامي" فى أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير.  اصبح المذيع أو المذيعة يجلس كل ليلة أمام الكاميرا ليطالعنا بعدد من الأخبار القصيرة أو فقرات إخبارية محدودة ثم يمتطي صهوة جواده فيخرج إلينا بما بدا له من آراء شخصية وأحكام لا تستند الي منطق ولا صواب. نسي الإعلامي والإعلامية فى مصر الفارق الجوهري بين "الشاشة" و "الكنبة". فسمحوا لأنفسهم أن يقولوا ما يشاؤون وما يرغبون. والجميع يستوي في ذلك من القنوات الفضائية والأرضية وتلفزيون الدولة والإعلام الخاص. 
ولن أتوقف أمام القنوات الخاصة فهي "موال لوحده". ورأس المال بالضرورة هو الذي يملي السياسة التحريرية. وأتذكر جيدا حديثاً لرجل الأعمال المعروف احمد بهجت للتلفزيون المصري قال فيه إنه لم يفكر أبدا يوما فى افتتاح قناة تلفزيونية لكنه وجد نفسه ينفق الكثير من الأموال  على الإعلانات فى القنوات الأخري فقال لنفسه ولماذا لا يكون لى قناة وبالمرة أوفر مصاريف الإعلانات!!  فى الحقيقة احترمت صدق الرجل وصراحته. المسألة لا تعدو كونها صفقة تجارية أي بزنيس. والبزنيس لا يعني بالضرورة عائدا ماديا ولكن قد يكون عائدا سياسيا أو استثمار لمصلحة طرف أو غير ذلك. وأحسب  أن جميع القنوات الخاصة تقريبا تعتمد نفس هذه السياسة. 
لكن ما أتوقف أمامه قليلا هو الاعلام المملوك للدولة هذا الاعلام الذي يجب أن يخدم "المواطن". وسأعود قليلا الي الوراء وانتقي ثلاثة نماذج  للتدليل على ما أقصد والسبب في انتقائها ليس لإنها النماذج الوحيدة ولكن لإنها قد تكون الأفضل في عرض وجهة نظري . والثلاثة لها علاقة بالاعلام المملوك للدولة خبر يشير إلى  أن لجنة تحقيق في المهنية في التلفزيون المصري توصلت الي أن سياساته تعاني من التخبط خاصة في أوقات الأزمات حيث ينتظر الأوامر .
 المذيعة اللامعة والمرشحة السابقة لرئاسة الجمهورية بثينة كامل تخطئ (عن عمد) وتقول ونواصل النشرة "الإخوانية. والزميلة الفاضلة هالة فهمي ترفع أمام جمهور برنامج "ضمير" علي القناة الثانية "كفنها" احتجاجا علي سياسيات الإعلام المصري "المضللة" لمجريات ما يحدث حقيقة في الشارع حسبما قالت. 
الخبر الأول أثار إعجابي لأن اللجنة كانت صادقة في تقييمها لأداء التلفزيون المصري وكان لديها الشجاعة الكافية لعرض النواقص ووضع أصبعها علي موطن الخطأ وهذا أول طريق النجاة في رأيي . المشكلة إذا في عدم وجود قواعد تحريرية يرجع إليها العاملون كميثاق شرف يلتزمون به مهما تغيرت الحكومات وتعاقبت التيارات السياسية .
موقف السيدة  بثينة كامل التي أجل لها كل الاحترام مهنيا وشخصيا واحترم نضالها من أجل المرأة والحريات أثار إعجابي لأول وهلة بشجاعتها في أن تقول ما ترغب دون الالتفات لعواقب ذلك . لكن علي المستوي المهني أصابتني حالة من الارتباك . هل هي بثينة كامل المذيعة أم الناشطة السياسية والمناضلة ؟ من الواضح أنه كان لديها وقتها الكثير من الاعتراضات علي الصياغة التحريرية للنشرة ولكن هل الاعتراض يجب أن يكون علي شاشات التلفزيون ؟ وماذا عن المشاهد الذي ينتظر خبرا دون تعليقات او تلميحات او مشاجرة علي الهواء بين مذيعة ومحرر نشرة ؟ 
أما الزميلة  هالة فهمي فلا اعلم عنها الكثير لكن أصدقاء محترمين أثق في حكمهم يشيدون بشجاعة هذه السيدة وصمودها من سنوات داخل ماسبيرو . وقد كبرت كثيرا في عيني وهي تتحدث لعمرو أديب كيف أنها لا تود أن تستبدل عملها الحالي في القطاع الإعلامي الحكومي بعمل في قناة خاصة لانها تعتبر أنها "تخدم الشعب" . لكن هذا لم يغير موقفي المهني مما فعلته. احترم انتماءاتها السياسية واحترم صمودها وصدقها مع النفس لكن جميعها صفات وميول تخص الشخص نفسه ولا تعني المتلقي في شيء ومشهد "الكفن" قد يثير الإعجاب لفترة لكنه لن يترك أثرا ابعد من ذلك في رأيي المتواضع.
فى بريطانيا حيث اعمل وامتهن الاعلام هيئة تسمي اختصارا Ofcom وهي الهيئة المنظمة لخدمات الراديو والتلفزيون.  هذه الهيئة من وظيفتها التأكد أن المشاهد أو المتلقي البريطاني يستفيد من الخدمة الإعلامية بالشكل الأفضل. كما أنها تحقق في الشكاوى التي يتقدم بها عامة الناس من خدمة إعلامية معينة. فعلي سبيل المثال أصدرت الهيئة قبل اسابيع قليلة إنذارا لقناة صفا الشيعية بعدما جاء إليها شكاوي من أن القناة توجه سبابا إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأن هذا النهج يسيء إلى المسلمين السُنة ويجرح مشاعرهم. تحققت الهيئة من الشكوي وخلصت إلى أن الشكوي حقيقية  فما كان منها إلا إن أصدرت إنذارا للقناة أما التوقف أو الإغلاق بمقتضي إذن قضائي. نعم  حتى في بريطانيا التي تفخر بعراقة ومصداقية أعلامها هناك حدود للحرية الإعلامية ما يجب وما لا يصح المسموح والخط الأحمر.  
ربما من الظلم البين أن نقارن ما يحدث في بريطانيا بما يحدث في مصر في المجال الإعلامي. ليس فقط لأن المحيط الإعلامي في بريطانيا اصبح ناضجا بما يكفي لأن يصوب نفسه. لكن لأن المشهد السياسي في مصر أصبح معقدا بما يكفي لأن يكون لكل طرف حسابات ومعادلات وتصفية حسابات وغالبا ما يكون الإعلام ورقة رابحة في هذه اللعبة السياسية ولو لمرحلة مؤقتة. 
 سوف يستمر التخبط الإعلامي وسوف تجدون الكثيرين  يتجرأون علي محاصرة الاستوديوهات والقنوات وإرهاب المذيعين والإعلاميين. وسوف يستمر الكثيرون ممن لا يفقهون في أبجديات الأعلام شيئا يتقمصون دور المذيعين ويمتطون صهوات الشاشات الفضائية. وهؤلاء لا أجد في نفسي أي رغبة حقيقة في أن أناقش ما ارتكبوا ويرتكبون لأنني ببساطة لا اعتبرهم إعلاميين أساسا. 
الحل في أن يجد الإعلاميون المصريون المحترمون الحقيقون أرضية واحدة يتفقون عليها. اسمها القواعد المهنية والحيادية. صحيح انه لا يوجد حياد في المطلق لكن يكفي شرف المحاولة. وعلي كل مكان أن يجد تلك الأرضية المشتركة حتي لا نفتح بابا للمزايدات والإعلام والإعلام المضاد. 

بئر الذكريات


لا تجد رأسها اي راحة علي اي وضع. لا علي جانبي خديها الذي تسلمه للحشية التي قسا قلبها القطني فاصبح كالحجر ولا لرأسها الذي تطن في جنباته أزيز المروحة القديمة التي لا تطفق رئتيها سوي هواء يشبه فحيح الأفاعي.
تنظر للشباك المغلق وتعاود النظر الي الدولاب. طاقة الشباك ارتفعت في السقف فشعرت كأنها سجينة الغرفة. الباب المغلق يكرس لعزلة قلبها في البيت.
تحاول عبثا أن تغفو قليلا. استيقظت علي جلبة المنزل باكرا وترديدات محفوظة يلفظها أصحابها في وجهها كما يبصقون ... لا حياة ... لا مبالاة. تعلقت صغيرتها برقبتها تمنحها بعض الأمان اللحظي. تستمر الجلبة تكتم علي أنفاسها بعد قليل صمتٌ كصمت القبور ....
لكن بئر الذاكرة ينفتح علي مصراعيه ... ضفائرها المقعوصة بعناية بالشرائط الحمراء الجديدة والثوب الذي سهرت امها حتي الفجر كي تضع اللمسات الاخيرة عليه يقف امام عينيها في فجور معلقا علي باب الدولاب ... آه أعتصرتها حسرة علي غياب صاحبة الخاتم الوردي.... فاض بئر الذاكرة بدموع ساخنة 

الثلاثاء، 3 سبتمبر 2013

شبح "كيلي" وانتصار الأكاذيب

 "ديفيد كيلي" قفز في ذهني الاسم فجأة مثل الشخصيات الأسطورية وأنا أتابع تفاصيل تفاعل الغرب مع تطورات الأزمة السورية وما قيل عن استخدام الاسلحة الكيميائية في ريف دمشق. ولمن لا يعرف "ديفيد كيلي" فلهم العذر فالرجل لم يرد اسمه في الأخبار سوي مرات قليلة تعد علي الأصابع لكنها - في رأيي -  كافية كي يحفر اسمه في ذاكرة الكثيرين وكافية لكي يعود الاسم ليلاحق الكثيرين في صحوهم ويقض مضاجهم بالليل  مثل الأشباح . 
"ديفيد كيلي" لمن لم تسعفه ذاكرته هو مفتش الاسلحة البريطاني الذي سرب (علي الأرجح) معلومات الي هيئة الاذاعة البريطانية BBC تفيد بأن مسؤولين في الحكومة البريطانية تلاعبوا بأدلة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل لتبرير غزو العراق.
بدأ الجدل بتقرير اعتيادي  لمراسل BBC أندرو غيليغان يؤكد أن "مصدرا كبيرا" في المخابرات ابلغه أن الحكومة البريطانية آنذاك بزعامة "توني بلير" تلاعبت بمعلومات استخباراتية بشأن العراق. قامت الدنيا ولم تقعد بعد ذلك التقرير الذي لم يستغرق اذاعته على الهواء أكثر من دقيقتين اثنتين.    
لم تهدأ الزوبعة واتخذت ردود الفعل تتوالي وتتصاعد. ومارس "بلير" شخصيا ضغوطا غير مسبوقة علي BBC وعلى مراسلها للكشف عن المصدر ... هذا المصدر الذي فضحه وفضح كذبه أمام العالم .
تشبث "غريك دايك" المدير العام لهيئة الاذاعة البريطانية بحق المراسل في عدم الكشف عن مصدره وأعلن أن BBC مستقلة ولن تخضع لتهديدات أي كانت ..لكن ضغوط الحكومة استمرت في التصاعد والتصعيد بحجة أن الامر يتعلق بالأمن القومي البريطاني وحين يتعلق الامر بالأمن القومي فعلي الجميع أن ينصاع وينسي حقوق المواطن في المعرفة وحقوق الصحافة في أن تكون سلطة رابعة أو تكون لها استقلالية.
كانت معركة شرسة بحق استخدم فيها" بلير" نفوذه وحيله وسلطاته ودهاءه. وكان له ما أراد. 
لم يتوقف "توني بلير" لحظة لنفي الكذب الذي لاحق حكومته ومسؤوليه. لم يعترف أبدا بأن حكومته لفقت أدلة علي وجود أسلحة دمار شامل في العراق لتبرير الغزو. تجاهل كل ذلك وأصبح نصب عينيه شئ واحد أن يعرف من الذي وشي به وأن يعاقب BBC ومراسلها ومديرها علي التجرؤ علي التسبب في إحراج كبير لحكومته وجعله مضغة في أفواه أصدقائه قبل أعدائه . وصمم على الانتقام وكان له ما أراد . لوقت غير قصير لم يسمع احد شيئا في أروقة BBC ولا الصحافة عن "أندرو غليغان" حتي ظهر فيما بعد ككاتب متواضع في احدي الصحف اليمينية . انتهي مستقبله في BBC وطال الوقت أم قصر وبعد حرب خفية أطيح كذلك  ب "غريغ دايك" من منصبه كمدير عام في صفقة لم يعرف أحدا بنودها حتي اليوم علي الرغم من أنه كان واحدا من انجح المديرين وأكثرهم ألمعية علي الاطلاق. أما "ديفيد كيلي" فقد كشف عنه الغطاء وخضع لاستجواب برلماني قاس وتم وقفه عن العمل ووجد مقتولا أو منتحرا بقطع شرايين رسغه بعد نزهة بمفرده في مقاطعة أوكسفورد شاير حيث كان يعيش حياة هادئة. 
رواية تصلح بامتياز لانه تكون فيلما يحصد جوائز عالمية ونهاية مأساوية تليق برواية شكسبيرية. 
مات "ديفيد كيلي" أو قتل لا يهم لكنه بقي وسيبقي شاهدا علي إرادة الكذب والتدليس عندما تنتصر علي الحق والأمانة.  بقي شاهدا علي أن الغرب عندما يريد يفعل مهما كان الثمن. وأن المبادئ والحقوق وقواعد الديمقراطية يمكن أن تذهب لأول سلة قمامة اذا ما أرادت القوة الغاشمة أن تقول كلمتها. 
لست مغرمة بالحكايات والروايات ولكني مولعة بقراءة المواقف ورصدها. 
ويبدو أن الغرب لا يكلف نفسه مشقة إبداع تجارب جديدة عندما يتعامل مع العالم العربي. أصبح وجهة مكشوفا لدرجة أنه لا يأبه حتي بتأليف رواية جديدة أو تلفيق أدلة. لا يهم إن جاء مفتشون دوليون عن سلاح كيميائي بتقرير يدين نظام بشار الاسد أو المعارضة أو طرف ثالث. فالنتيجة محسومة سلفا وتقارير الاستخبارات الامريكية في التنصت علي ضباط الجيش السوري وهم يتحدثون عن سلاح وأسلحة كيميائية  جاهزة في ورقة ما في درج ما في مكتب ما لمسؤول ما في الادارة الامريكية وعدا ذلك لا يهم. 
لا يهم أن يسأل أحد لماذا انتظر بشار الاسد الي أن يأتي المفتشون الدوليون الي دمشق في عقر داره ليشن هجوما بالسلاح الكيميائي علي الغوطة التي تبعد عدة كيلو مترات عن قلب العاصمة السورية. لا يهم أن يسأل أحد عن الاستفادة التي يمكن أن تعود على بشار والحكمة في أن يورط نفسه في ذلك في هذا الوقت بالذات بقضية من هذا النوع . لا يهم أبدا أن يتحدث أحد عن المنطق في أن المعارضة السورية هي المستفيد الوحيد من تحريك القضية بعد تراجع الغرب عن التسليح المباشر لها. لا يهم أن يضع أحد احتمال أو فرضية أن الاسلحة الكيميائية قد وقعت في يد القاعدة أو جبهة النصرة أو غيرها.  لا يهم أن يقول العقلاء أن نظام بشار قتل ويقتل كل يوم اضعاف وأضعاف القتلي في الغوطة. لا يهم كلام الخبراء العسكريين من أن توجيه ضربة عسكرية محدودة لبشار وجيشه سيجعل منه بطلا وضحية لا مجرما يستاهل العقاب.
لا يهم كل هذه الفرضيات التي  يطرحها بالمناسبة اليوم رجل الشارع في الغرب وليس رجل الشارع العربي. 
القضية باختصار أن السيناريوهات جاهزة وخطط التقسيم معدة والتدخل قادم قادم ولتسقط عاصمة عربية جديد ويضيع ما تبقي من شعب صمد للتنكيل والقتل والتشريد على مدي عامين ونصف. ولتنتصر إرادة الكذب. 

السبت، 10 أغسطس 2013

الإعلام والمهمة المستحيلة



قالت لي صديقتي ورفيقة عمري بحماس: " إحنا عارفين مين اللي معانا ومين اللي ضدنا.. الجزيرة ضدنا .. العربية معانا .. أنتو ضدنا.. " ضحكت قليلا وقلت لها مستنكرة : احنا ضدكم ازاي يعني؟ ولماذا نكون ضدكم وما الذي يجعلك تقولين ذلك؟" ردت علي بشكل مباشر .. نتابع ونستمع ونعرف أنكم لستم معنا .. أنتم مع الأخوان" لم تكن هذه المرة الأولي التي أواجه التهمة التي الصقتها بي صديقتي التي تربطني بها درجة قرابة أيضا.. ولم تكن المرة الوحيدة التي تلاحق المؤسسة التي أعمل بها هذه السمعة.. والحقيقة أن شخصا ممن يتابعونني علي توتير قال لي نفس الكلام تقرييا قبل أيام.. "نعرفكم تساندون الأخوان.. أصلا  القناة دي ..... طالعة من رحمكم ابنتكم". فرددت عليه مازحة: "لا خلاص تبرأنا منها"
علي مدي سنوات طويلة عملت بها فى الإعلام اعتدت علي هذه التهم وهذه التصنيفات هذا معنا وهذا ضدنا. فإرضاء الناس إعلاميا غاية لا تدرك في كثير من الأحيان. لكن التهم تزداد وتتعاظم في أوقات الاستقطاب السياسي والتناحر والفرقة والتجاذب بين الاطراف المتصارعة. وخاصة عندما تكون المواقف رمادية ومتشابكة ويصعب فيها تحديد موقف قاطع. هنا تكون التهم جاهزة ومتسارعة. وقد اعتدنا علي ذلك لدرجة أننا نضحك ونقول طالما جميع الأطراف تكيل لنا الشتائم فنحن على الطريق الصحيح. 
وهذا لا يعني أن الإعلام برئ ولا يخطأ وكاتبة هذه السطور تقع كغيرها تحت طائلة الخطأ لكن الضمير المهني هو المرجع في نهاية المطاف. وقد اعتدت علي تشبيه الإعلامي بالطبيب الذي يجب أن يصارح المريض بحقيقة مرضه حتي لو كانت قاسية. فيستحق في نهاية الأمر ما لا ذنب له فيه ..لعنات المريض وغضب أهله ومحبيه. 
وأذكر جيدا عندما ذهبت إلي موريتانيا لتنظيم دورة تدريبية للزملاء الأذاعييين وسمعت أغرب شيء في حياتي. قال لي أحد المتدربين إن إذاعة بي بي سي شهدت انحسارا كبيرا فى نسبة الاستماع إبان حرب العراق. سألته لماذا قال لي لأنها كانت تقول الحقيقة المجردة دون مجاملة أو تزييف. كنتم تقدمون صورة صادقة لما يحدث علي الأرض وقد شعر الشعب الموريتاني الذي كان مغرما ب "صدام حسين" بالصدمة لانهيار نظام حكمه فصب جام غضبه علي بي بي سي وتوقف عن سماعها وأخرسها. أي أن بي بي سي دفعت ببساطة ثمن نقل الحقيقة المجردة الصادمة. هذا وللتاريخ فقد كانت هذه المؤسسة العريقة والعاملين فيها من أشد المعارضين لغزو العراق ودخلت فى صراع مرير مع حكومة توني بلير انتهت بفوز بلير مرحليا لتسدد إليه ضربة موجعة بعد سنوات.
لا أود أن أعطي دروسا فى المهنية ومصداقية الأعلام. لكنني أتوقف قليلا أمام المهمة التي أصبحت مستحيلة اليوم - مهمة الاعلام. ولا شك أن الوضع في مصر اليوم من أصعب قضايا الساعة التي تواجه الأعلاميين اليوم … وضع فريد بكل المقاييس وعلي ذلك فارضاء جميع أطراف المعادلة يعد ضربا من ضروب الخيال. كما أن نقل جميع وجهات النظر بحيادية وتجرد غاية لا يمكن الوصول إليها بسهولة. 
في الأزمة السورية وعلي مدي شهور طويلة واجه الأعلاميون صعوبة كبيرة فى نقل ما يحدث فى داخل البلد لشح المعلومات وانعدامها تقريبا. السبيل الوحيد لدخول البلاد عن طريق نظام بشار الأسد وعلي ذلك فعليك أن تنقل وجهة النظر التي يراها ويوافق عليها النظام وفي المقابل إذا ما رغبت في المجازفة ودخول المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة يصبح لزاما عليك نقل وجهة نظرها دون سواها. 
لكن الوضع المعقد فى مصر عكس ذلك تماما. فإذا كان شح المعلومات يجعل من نقل الصورة الحقيقية من داخل سوريا صعبا. فغزارة المعلومات وتدفقها انهارا فيما يتعلق بتطورات الأحداث في مصر بشكل متسارع يجعل مهمة الإعلاميين مستحيلة. فالجميع نصب نفسه مذيعا وصحفيا ومحللا سياسيا وحكما وقاضيا. الجميع يمتلك حسابا على تويتر أو فيسبوك وبامكانه أن ينشأ منتدي ويكون لديه ألاف من المتابعين حتي وإن لم يكن يعمل بالإعلام أصلا. لدي الجميع خاصية الشير وتنزيل الصور من علي الانترنت ورفعها علي موقعه أو صفحته. يعرف الجميع مواقع كبريات الصحف العالمية ويستعين ب خاصية غوغل ترانسليشن لنقل ما يريد من أراء وتعليقات. 
كل هذا الصخب يجعل من مهنة الإعلام مهنة صعبة للغاية. فماذا تبقي للإعلام كي يقدمه بعد أن تستهلك مواقع التواصل الاجتماعي جميع الأخبار بعد ساعات من ورودها؟ وكيف يمكن للإعلام أن يقدم شيئا جديدا متميزا عن كل الموجود على مواقع التواصل الإجتماعي ؟
علي مدي الأيام القليلة الماضية واظبت في القاهرة على شراء جميع الصحف المصرية وشعرت بالرثاء لها. فالتغطية الأخبارية استهلكت فى برامج التوك شو والمواقع الأخبارية فلم يعد من تميز لهذه الصحيفة أو تلك سوي أقلام بعض الكتاب والمحللين. وحتي ذلك لم يعد له القداسة التي كانت لعمود أنيس منصور أو مصطفي أمين. ولم يعد القارئ ينتظر هذا الكاتب أوذاك فما الدافع لذلك. فقد تبادل الجميع الأراء والصور والبوستات وأصدروا الأحكام فى الليلة السابقة فلم يتبق للصحف سوي البقاء على أرصفة النسيان -إلا من رحم ربي. 
ومع ذلك لا يبقي الإعلام البديل دون خطايا تماما كما أن الأعلام التقليدي لم يكن أبدا دون أخطاء . فالجميع أصبح يتذكر الأن كيف أن صورا لمشاهد فى وقعت في سوريا تم نشرها علي أنها من رابعة وأن شريط فيديو تم اذاعته علي أنه لوقائع اقتحام مركز شرطة في الدقهليه لم يكن كذلك. وعدد ممن يروجون لصور ووقائع مغلوطة باللغة الانجليزية لمخاطبة الغرب أصبحوا معروفين علي فيسبوك وتويتر وتمت ملاحقتهم بتهم الكذب من قبل المتابعين والراصدين لهم وتم فضحهم باللغة الانجليزية أيضا وعلي نفس المواقع وبنفس السلاح . 
في خضم كل ذلك يبقي علي عاتق الإعلام التقليدي خاصة المكتوب مهمة مستحيلة. أن يقدم المميز والصحيح ويبتعد عن  المزايدات. فى الفترة الماضية وخاصة فيما يتعلق بالأزمة المصرية تعملت ما لا اتعلمه في سنوات طويلة من العمل الإعلامي. تعلمت أن العملة الجيدة تطرد فى النهاية العملة الرديئة وأن الرخص والمزايدات لا مكان لها حتي وإن بدا غير ذلك لأول وهلة. تعملت أيضا أن الامكانيات الهائلة والصيت وشبكة المراسلين لا تصنع بالضرورة إعلاما جيدا وكنت اتشكك دوما في ذلك لكني أؤمن اليوم بأن المهارات الإعلامية والصدق والامانة في النقل أهم بكثير من الأموال والامكانيات. تأكدت أيضا أن الأزمات الكبيرة علي صعوبة التعامل معها تفرز الأعلام الجيد المحترم من الإعلام المنحاز المغرض. وأهم ما تعلمته أن في الإعلام - كما هو في الحياة -" الكذب مالوش رجلين"

الجمعة، 14 يونيو 2013

الإيرانيون لا يعصرون الليمون


                          
في مثل هذا اليوم قبل أربع سنوات كنت أقف شاهدا علي طوابير طويلة من المواطنين الإيرانيين يدلون بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية. اعترف أنني فوجئت بمثل هذا الإقبال المنقطع النظير من المواطنين الذين يعتبرون أن الإدلاء بأصواتهم أمانة وواجب وحق لله والوطن - هكذا قالوا لي.  كان من اللافت أن طوابير النساء كانت أطول بكثير من طوابير الرجال. سيدات من مختلف الاعمار والتوجهات والمشارب منهن من تحمل الكتب الدراسية والبلاك بيري ومن جاءت تحمل طفلها الوليد الذي لم يتجاوز عمره أيام ومن تنتمي الي الطبقات الشعبية ترتدي "الشادور" وهو اللباس الأسود التقليدي للايرانيات وهو  بالمناسبة ليس له علاقة بدرجة تدين من ترتديه بل يشبه الي حد بعيد "الملاية اللف" التي كانت ترتديها المصريات فيما مضي من زمن. 
جاء الإيرانيون من كل صوب وحدب وفي عيونهم الأمل في أن تأتيهم الانتخابات بالجديد .. أي جديد يحرك البحيرة الراكدة من حولهم. كان من الواضح أنها معركة تكسير عظام بين الاصلاحيين والمحافظين.
 في الأيام التي سبقت الانتخابات كان الحشد بين المعسكرين علي أشده شوارع طهران اكتست باللافتات الانتخابية ومؤيدو الطرفين يجوبون شوارع طهران في تتابع مثل موجات بشرية. تخرج مظاهرة لمؤيدي المرشحين الإصلاحيين تغني  "يادكتور سرقت الذهب والنفط وأعطيتنا أجولة البطاطس" وذلك في تهكم علي الرئيس محمود أحمدي نجاد الذي كان - حسبما قال الناس لي - يوزع علي الفقراء أجولة البطاطس بنفسه خلال الليل. وبعدها بدقائق تخرج مظاهرة آخرى لمؤيدي المحافظين تنشد الأناشيد الدينية وتقسم بالولاء لاتباع "الإمام" أي الإمام الخوميني ومحاربة "عبيد الأمريكان". 
 تجولت في العديد من مناطق طهران أرصد نبض الشارع الإيراني وكان الانقسام والاستقطاب واضحا للغاية. معظم سكان المناطق الفقيرة كانوا من المؤيدين لاحمدي نجاد حتي الشباب منهم . استطاع أحمدي نجاد ببراعة ومن خلفه المؤسسة الدينية المتنفذة أن يغذي أحلام البسطاء بأنه سيجعلهم القوة النووية الضاربة في العالم سيقفون في وجه أمريكا "الشيطان الأكبر".
قالوا لي أنه بسيط طاهر اليد يرتدي نفس الملابس التي كان يرتديها قبل أن يتولي الرئاسة. يمشي مثلهم في الأسواق ويأكل مثلما يأكلون ويقبل يد المرشد ويمتزج مع الملالي. 
علي الطرف الآخر من مدينة طهران المزدحمة والتي يخنق عادم السيارات أنفاس من يسير فيها وجدت شريحة آخري من الإيرانيين. الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة التي تحلم بالحرية والديمقراطية وحرية الاعلام والانترنت وأشياء كثيرة ربما لا تهم أقرانهم من الطبقات الدنيا والشعبية. لم أجد صعوبة في التواصل معهم. معظم يجيد الانجليزية بطلاقة والغالبية منهم يتحدثون بلكنة أمريكية واضحة. يرتدي الشباب منهم الملابس علي الطراز الغربي كان أحدهم كان يرتدي تي شيرت مكتوب عليه I love New York مازحته قائلة إلا تخشي من الشرطة الدينية رد قائلا "كلنا نحب أمريكا أنا احبها في العلن وهم يحبونها في الخفاء".
في وقت متأخر من الليل وقفت الفتيات اللواتي يتوفرن علي نسبة عالية من الجمال يوزعن علي السيارات المنشورات التي تدعو إلى انتخاب أحد المرشحين الإصلاحيين "مهدي كروبي" و"حسين موسوي" ( وكلاهما قيد الإقامة الجبرية منذ اربع سنوات وحتي اليوم ) قالت لي إحداهن وهي تحاول في دلال إعادة الايشارب الصغير الأنيق علي رأسها من جديد: "سننتصر هذه المرة". ولم ينتصروا ! 
اخترت أن يكون بازار طهران آخر محطة في جولاتي في عاصمة كنت أعلم أنني ربما لن أتمكن مرة أخري من زيارتها. في جنبات الحوانيت الصغيرة المتلاصقة ببعضها البعض كانت هناك بعض من أفخم وأجمل أنواع السجاد التي يمكن أن يراها أي شخص في حياته. كان واضحا أن لا تجارة ولا بيع ولا شراء. بل ركود وركود. يعتمد بعضهم علي السفر وبيعها في الخارج أو عليه انتظار ما ندر من السياح الأجانب الذين يغامرون بالقدوم إلى هذا البلد الذي تخنقه الكثير من التعقيدات والمخاطر الأمنية. في ثالث محل وقعت عيني علي لوحة مغزولة بخيوط حريرية صورة للرئيس المصري الرحل جمال عبد الناصر ! لم أتمالك نفسي من الدهشة ابتسم صاحب المحل قائلا لم الدهشة أنه زعيم وطني نحبه كثيرا ونقدره أنه مثل الزعيم محمد مصدق. وكيف يمكن للشعوب أن تنسي من ينحاز لها ويقف في وجه الإمبريالية الغربية ؟ 
كان حديث البازار مغلفا بكثير من الحذر. تعلم الإيرانيون ألا يكونوا منفتحين مع الغرباء. إنهم يعشقون الحديث في السياسة لكنهم لا يفصحون بالضرورة عمن سينتخبون. التجار منهم علي وجه الخصوص - وهم طبقة متنفذة ويحسب لها حساب - لا يمكن أن يكشفوا بوضوح عن خياراتهم السياسية ولكنهم لا يفرطوا في حقهم الانتخابي أبدا. اكتفوا بالإشارة إلى صعوبة الحياة ووقف الحال فى ظل عقوبات اقتصادية خانقة. ربما يأت الغد بجديد - قال لي أحدهم. ولم يأت الغد بجديد. 
في يوم الانتخابات نفض الجميع أحلام الليالي السابقة وارتدوا أجمل ما لديهم وذهبوا إلى الحرب ....إلى مراكز الاقتراع. كان يوما طويلا ومرهقا انتشرت فيه الشرطة بكثافة . أمرني أحدهم في صلافة أن أغلق جميع أزرار معطفي قبل أن يسمح لي بالدخول الي مركز الاقتراع الذي أقيم في أحد الحسينيات. ولم يسمح آخر للمترجمة التي ترافقني بدخول لجنة أخري علي الرغم من أنها مُعينة من قبل وزارة الثقافة والإرشاد.
طوابير الإيرانيين أجبرت السلطات علي تمديد وقت الاقتراع ثلاث مرات. قبل إغلاق المراكز طيرت احدي الوكالات الغربية خبر فوز "موسوي". قضينا الليلة ما بين تكذيب خبر وتصديق اخر وفي الصباح جاءت الأنباء بما لا يشتهي الكثيرون. تأهب الجميع وبدأ الحشد. العرس الديمقراطي الكبير تحول في اليوم التالي إلى كابوس. قضينا ساعات طويلة فى انتظار ما نعرفه بالفعل وعلينا أن نؤكده فقط "فاز أحمدي نجاد بولاية ثانية" 
لم ينتظر الإيرانيون مثلنا إعلان النتائج الرسمية وبدأت الاحتجاجات والملاحقات من شارع لشارع والضرب بالهروات وإطلاق الأعيرة النارية. خرج الإيرانيون غير مصدقين كانوا يعلمون أنهم أختاروا بوعي وعن ثقة في المستقبل. وحدثت الخديعة وتم تزييف إرادتهم. هذا ما كانوا يقولون لي والشرطة تلاحقنا معا من شارع لشارع. 
كان أخر يوم في طهران . ذهبت برفقة بعض الزملاء إلى مكان بعيد نلتمس قدرا من الراحة بعد ثمانية أيام من العمل الشاق. في الطريق كان واضحا أن الغضب أخذ مداه. مع دقات الثامنة مساء أطلق جميع سائقي السيارات صفارات سياراتهم وأطفئ من في البيوت الأنوار .. سبحت طهران في الظلام لدقائق. أخذت تروي المترجمة - وهي من أصل عراقي ولا تجرؤ حتى على نطق اسمها الحقيقي "شيماء" واستبدلته باسم فارسي "شيوا" كيف أن زوار الفجر أخذوا جارها الشاب ذات يوم ليعود بعد عشر سنوات كاملة في السجن وهو حطام إنسان سألتني في حسرة : "هل هذا هو الدين ؟ إذا كانوا المتدينون يفعلون ذلك فماذا يفعل الكفار؟" 
هناك علي الجبل كانت الأمور أكثر هدوءا إلا من بعض الشباب الذين كانوا يبكون في الشارع حزنا صرخ بعضهم فينا "مبسوطين ؟ عاد أحمدي نجاد سيظل كابوسا لأربع سنوات" وظل كذلك
عندما هبطنا إلى الشارع بعد راحة قصيرة لم نعد إلى نفس المدينة تبدلت فى ساعات. لا تنمحي من ذاكرتي صورة فتاة بارعة الجمال صبغت أظافرها ببراعة بلون أحمر وتحمل بكل عناد حجرا كبيرا وتدق في عنف وجنون على الحواجز الحديدية ويتردد الصوت نفس الصوت فى كل أنحاء طهران. 
كان من المحزن جدا أن أشهد هذه التقلبات ما بين الأمل والرجاء واليأس. 
لكنهم عادوا من جديد بعد أربع سنوات ... بامل جديد فى الغد وأن المعجزة ستحدث ذات يوم وتتحقق إرادتهم السياسية .. فالإيرانيون لا يعصرون الليمون..