اعترف أنني شعرت بالصدمة للوهلة الأولي التي اختفت فيها ما تسمي بالقنوات الدينية وقناة خمسة وعشرين الناطقة باسم جماعة الأخوان المسلمين من على شاشات التلفزيون . فذاكرتي لا تسعفني بتذكر أني شهدت شيئا مثل ما حدث سوي ما حدث عام ألف وتسعمئة وستة وتسعين في بريطانيا وكنت شاهدا علي حدوثه من قريب. عندما قرر الشريك التجاري لهيئة الاذاعة البريطانية وقف بث التلفزيون العربي ل بي بي سي والذي كان مشروعا مشتركا بين الجانبين . كانت الإدارة وقتها تتمتع - بمقتضيات التعاقد مع الشريك السعودي - باستقلالية تحريرية كاملة. وعلى ذلك قررت إدارة التلفزيون العربي وقتها إذاعة حلقة من برنامج بانوراما الشهير عن حقوق الإنسان في السعودية. كانت قناعة الإدارة البريطانية للقناة وقتها أنه لا يوجد ما يبرر ألغاء الحلقة من البرنامج المدرج علي جدول القناة وأن هذا يعني محاباة الشريك التجاري. وقف جميع الصحفيون يشاهدون البرنامج علي شاشات الإذاعة الداخلية ويطلقون لخيالهم العنان في ردود فعل الشريك التجاري السعودي لكن لم يدر بخلد أيا من كان أنه في اليوم التالي ستكتب نهاية أول تجربة تلفزيونية ناطقة بالعربية لبي بي سي . في منتصف الظهر قُطع الارسال وطُلب من الصحفيين والمحررين أن يتركوا كل شيء كما هو وأن يأخذوا متعلقاتهم الشخصية فقط.
لكن ظروف إغلاق القنوات الدينية وقناة خمسة وعشرين تختلف كثيرا في تفاصيلها عن هذا الحادث وجاءت في أوج أزمة سياسية طاحنة وشاهد عشرات الآلاف عبر يوتيوب مقاطع فيديو لقوات الأمن وهي تقوم باعتقال العاملين في هذه القنوات بتهم لا يعرف أحدا ما هي وبدون أي حكم قضائي. علي أن ذلك يماثل ما حدث لقناة الفراعين وصاحبها توفيق عكاشة الذي تم مطاردته واعتقاله علي الهواء ومن ثم إطلاق سراحه دون أن يعرف أحد لماذا وكيف اُعتقل ولماذا أُطلق سراحه.
ولا يعنيني هنا أن أتوقف أمام جدل قضائي لست علي دراية بتعقيداته وتفاصيله التي يمكن أن يتوه فيها الكثيرون لكني أتوقف أمام قيمة الاعلام وما يقدم في هذه القنوات وغيرها.
أول مرة انتبهت فيها لوجود القنوات الدينية كانت قبل نحو ثلاث سنوات. كنت أقوم بزيارة لبلدة صغيرة في صعيد مصر هي مسقط رأس أبي. لاحظت أن كل بيت زرته من بيوت أقاربي وعائلتي أولاد عمومتي كان الجميع بلا استثناء يتطلعون إلى شاشة إحدي هذه القنوات. ولا أبالغ إن قلت أنني اكتشفت أن الجميع لا يداوم سوي على مشاهدة هذه القنوات والمسلسلات الدرامية. ولفت نظري وقتها أن إحدي هذه القنوات تقدم مفاهيم مغلوطة عن الشيعة. كنت عائدة لتوي من طهران في زيارة عمل وعندما حاولت تصحيح ما يقال لم يكترث أحد فى البيت لما أقوله كثيرا. بينما بدا أن الجميع واثقون أكثر فيما تقوله هذه القنوات التي تتاجر بتجارة رائجة للغاية "الدين". وخرجت وقتها بقناعة مفادها أنه لا يمكن إلا يلتفت المصريون إلي شخص جالس أمامهم يتحدث عن الدين أو بالاحري يتظاهر بالمعرفة لشؤون الدين.
كان من الواضح أن هذه القنوات أدت الغرض الذي أراده لها نظام مبارك. الحديث في الدين ولا حديث في السياسة. ولذا لم يكن مستغربا أبدا أن هذه القنوات لم تكن تتحدث في السياسة قبل الثورة والحقيقة أنه ليس لدي توثيق كامل لما كانت تبثه هذه القنوات لكن المؤكد أنها كانت تتمتع بشعبية جارفة لدي قطاعات كبيرة من الشعب المصري وخاصة لدي الطبقة الشعبية لذا اعتمدت الخطاب الدارج الذي يصل فى كثير من الاحيان إلى الفجاج كما أنها حققت - ولا شك - أرباحا خيالية إثر ذلك.
ولم يكن مستغربا أن تدخل هذه القنوات بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير على خط السياسة والخطاب العام. فهي على أي الأحوال بدأت فى جني ما استثمرت فيه من شعبية. او بالاحري شعبوية. فأطلقت لنفسها العنان في الخطاب السياسي الممجوج الذي لا يستند إلى اي حقائق بل مجرد تمرير رسائل سياسية واجتماعية تغلفها طبقة هشة من التدين الزائف. واتسع النطاق لتصبح ما يسمي بالقنوات الدينية أداة طيعة للهجوم على الخصوم دون أي رابط أو رادع وأغرقت نفسها فى خطاب أقل ما يقال عنه أنه "مستفز وبذئ" . واعتمدت قناة الفراعين نفس السياسة تقريبا مع اختلاف الأسماء والوقائع.
واحقاقا للحق فلم تكن هذه القنوات تغرد خارج السرد فيما ذهبت اليه ولكنها كانت الأكثر نشازا والأكثر قبحا. ربما لانها كانت تستغل ما لا يجب استغلاله " الدين". وقد شهدت مصر ومازالت كما هائلا من "التسيب الإعلامي" فى أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير. اصبح المذيع أو المذيعة يجلس كل ليلة أمام الكاميرا ليطالعنا بعدد من الأخبار القصيرة أو فقرات إخبارية محدودة ثم يمتطي صهوة جواده فيخرج إلينا بما بدا له من آراء شخصية وأحكام لا تستند الي منطق ولا صواب. نسي الإعلامي والإعلامية فى مصر الفارق الجوهري بين "الشاشة" و "الكنبة". فسمحوا لأنفسهم أن يقولوا ما يشاؤون وما يرغبون. والجميع يستوي في ذلك من القنوات الفضائية والأرضية وتلفزيون الدولة والإعلام الخاص.
ولن أتوقف أمام القنوات الخاصة فهي "موال لوحده". ورأس المال بالضرورة هو الذي يملي السياسة التحريرية. وأتذكر جيدا حديثاً لرجل الأعمال المعروف احمد بهجت للتلفزيون المصري قال فيه إنه لم يفكر أبدا يوما فى افتتاح قناة تلفزيونية لكنه وجد نفسه ينفق الكثير من الأموال على الإعلانات فى القنوات الأخري فقال لنفسه ولماذا لا يكون لى قناة وبالمرة أوفر مصاريف الإعلانات!! فى الحقيقة احترمت صدق الرجل وصراحته. المسألة لا تعدو كونها صفقة تجارية أي بزنيس. والبزنيس لا يعني بالضرورة عائدا ماديا ولكن قد يكون عائدا سياسيا أو استثمار لمصلحة طرف أو غير ذلك. وأحسب أن جميع القنوات الخاصة تقريبا تعتمد نفس هذه السياسة.
لكن ما أتوقف أمامه قليلا هو الاعلام المملوك للدولة هذا الاعلام الذي يجب أن يخدم "المواطن". وسأعود قليلا الي الوراء وانتقي ثلاثة نماذج للتدليل على ما أقصد والسبب في انتقائها ليس لإنها النماذج الوحيدة ولكن لإنها قد تكون الأفضل في عرض وجهة نظري . والثلاثة لها علاقة بالاعلام المملوك للدولة خبر يشير إلى أن لجنة تحقيق في المهنية في التلفزيون المصري توصلت الي أن سياساته تعاني من التخبط خاصة في أوقات الأزمات حيث ينتظر الأوامر .
المذيعة اللامعة والمرشحة السابقة لرئاسة الجمهورية بثينة كامل تخطئ (عن عمد) وتقول ونواصل النشرة "الإخوانية. والزميلة الفاضلة هالة فهمي ترفع أمام جمهور برنامج "ضمير" علي القناة الثانية "كفنها" احتجاجا علي سياسيات الإعلام المصري "المضللة" لمجريات ما يحدث حقيقة في الشارع حسبما قالت.
الخبر الأول أثار إعجابي لأن اللجنة كانت صادقة في تقييمها لأداء التلفزيون المصري وكان لديها الشجاعة الكافية لعرض النواقص ووضع أصبعها علي موطن الخطأ وهذا أول طريق النجاة في رأيي . المشكلة إذا في عدم وجود قواعد تحريرية يرجع إليها العاملون كميثاق شرف يلتزمون به مهما تغيرت الحكومات وتعاقبت التيارات السياسية .
موقف السيدة بثينة كامل التي أجل لها كل الاحترام مهنيا وشخصيا واحترم نضالها من أجل المرأة والحريات أثار إعجابي لأول وهلة بشجاعتها في أن تقول ما ترغب دون الالتفات لعواقب ذلك . لكن علي المستوي المهني أصابتني حالة من الارتباك . هل هي بثينة كامل المذيعة أم الناشطة السياسية والمناضلة ؟ من الواضح أنه كان لديها وقتها الكثير من الاعتراضات علي الصياغة التحريرية للنشرة ولكن هل الاعتراض يجب أن يكون علي شاشات التلفزيون ؟ وماذا عن المشاهد الذي ينتظر خبرا دون تعليقات او تلميحات او مشاجرة علي الهواء بين مذيعة ومحرر نشرة ؟
أما الزميلة هالة فهمي فلا اعلم عنها الكثير لكن أصدقاء محترمين أثق في حكمهم يشيدون بشجاعة هذه السيدة وصمودها من سنوات داخل ماسبيرو . وقد كبرت كثيرا في عيني وهي تتحدث لعمرو أديب كيف أنها لا تود أن تستبدل عملها الحالي في القطاع الإعلامي الحكومي بعمل في قناة خاصة لانها تعتبر أنها "تخدم الشعب" . لكن هذا لم يغير موقفي المهني مما فعلته. احترم انتماءاتها السياسية واحترم صمودها وصدقها مع النفس لكن جميعها صفات وميول تخص الشخص نفسه ولا تعني المتلقي في شيء ومشهد "الكفن" قد يثير الإعجاب لفترة لكنه لن يترك أثرا ابعد من ذلك في رأيي المتواضع.
فى بريطانيا حيث اعمل وامتهن الاعلام هيئة تسمي اختصارا Ofcom وهي الهيئة المنظمة لخدمات الراديو والتلفزيون. هذه الهيئة من وظيفتها التأكد أن المشاهد أو المتلقي البريطاني يستفيد من الخدمة الإعلامية بالشكل الأفضل. كما أنها تحقق في الشكاوى التي يتقدم بها عامة الناس من خدمة إعلامية معينة. فعلي سبيل المثال أصدرت الهيئة قبل اسابيع قليلة إنذارا لقناة صفا الشيعية بعدما جاء إليها شكاوي من أن القناة توجه سبابا إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأن هذا النهج يسيء إلى المسلمين السُنة ويجرح مشاعرهم. تحققت الهيئة من الشكوي وخلصت إلى أن الشكوي حقيقية فما كان منها إلا إن أصدرت إنذارا للقناة أما التوقف أو الإغلاق بمقتضي إذن قضائي. نعم حتى في بريطانيا التي تفخر بعراقة ومصداقية أعلامها هناك حدود للحرية الإعلامية ما يجب وما لا يصح المسموح والخط الأحمر.
ربما من الظلم البين أن نقارن ما يحدث في بريطانيا بما يحدث في مصر في المجال الإعلامي. ليس فقط لأن المحيط الإعلامي في بريطانيا اصبح ناضجا بما يكفي لأن يصوب نفسه. لكن لأن المشهد السياسي في مصر أصبح معقدا بما يكفي لأن يكون لكل طرف حسابات ومعادلات وتصفية حسابات وغالبا ما يكون الإعلام ورقة رابحة في هذه اللعبة السياسية ولو لمرحلة مؤقتة.
سوف يستمر التخبط الإعلامي وسوف تجدون الكثيرين يتجرأون علي محاصرة الاستوديوهات والقنوات وإرهاب المذيعين والإعلاميين. وسوف يستمر الكثيرون ممن لا يفقهون في أبجديات الأعلام شيئا يتقمصون دور المذيعين ويمتطون صهوات الشاشات الفضائية. وهؤلاء لا أجد في نفسي أي رغبة حقيقة في أن أناقش ما ارتكبوا ويرتكبون لأنني ببساطة لا اعتبرهم إعلاميين أساسا.
الحل في أن يجد الإعلاميون المصريون المحترمون الحقيقون أرضية واحدة يتفقون عليها. اسمها القواعد المهنية والحيادية. صحيح انه لا يوجد حياد في المطلق لكن يكفي شرف المحاولة. وعلي كل مكان أن يجد تلك الأرضية المشتركة حتي لا نفتح بابا للمزايدات والإعلام والإعلام المضاد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق