Translate

الخميس، 1 مايو 2014

في بلاد الكفر



عن الوطن والمواطنة في بلاد الكفر 
وقفت أمام الموظف النحيف ذي النظارات الرفيعة وأنا في منتهي الارتباك والحيرة. من فرط توتري أخذت أعرض أمامه الأوراق التي في يدي واحدة تلو الأخري بسرعة وبدون ترتيب وأنا أشرح له ما جاء بي إلي ديوان جوازات السفر.. 
"جواز سفري محجوز في السفارة الأمريكية لغرض الحصول على تأشيرة دخول لغرض العمل وأنا مسافرة غدا في رحلة عمل أيضا إلي مصر وليس لدي جواز سفر أدخل به بريطانيا بعد عودتي" 
أخذ يفحص الأوراق التي قدمتها له علي مهل وبعد عدة دقائق ردها إلي قائلا إن إحداها غير أصلية والمكتب لا يقبل النسخ. أضاف بتهذيب شديد: " أسف لا استطيع أن مساعدتك" 
عرضت عليه جواز سفري المصري .. قال : إذا لا مشكلة. قلت: بلي كيف سأدخل إلي بريطانيا بعد عودتي من مصر ؟ رد ببساطة ماعليك سوي أن تقدمي لهم عند دخول البلد النسخة المصورة من جواز سفرك البريطاني وسوف يسمحون لك بالدخول بعد أن تشرحي لهم الموقف. سيسمحون لك بالدخول لا داعي للقلق … نظر إلي مجددا بهدوء وقال : لديك جنسية بلد أخر هي مصر والقانون البريطاني يسمح لك بذلك. وأضاف مبتسما: لا تقلقي يا سيدتي أنت بريطانية مثلي تماما ! 
تسمرت أمامه لبرهة وكأنني اكتشف للمرة الأولي أنني "بريطانية". شعرت بغصة في حلقي .. لا أعرف إن كانت من فرط التوتر الذي عايشته على مدى الساعات القليلة التي سبقت هذا الحوار أم لأنني أشعر بالفعل من التأثر من فكرة أنني بالفعل "مواطنة بريطانية"
شعور غريب بالفعل أن تشعر بالانتماء لوطنك الأم تعيش معه بقلبك وجوارحك وانفعالاتك وتعيش في وطن أخر تعمل فيه وتنجح وتتقاضي منه راتبك. والأهم من كل ذلك أن تشعر أنك مواطن لك نفس الحقوق وعليك نفس الواجبات. ومع ذلك يبقي داخلك شئ مختلف لا يقنعك جواز السفر الأحمر الأنيق ـ الذي يحمل شعار ما كان يوما أمبراطورية لا تغيب عنها الشمس ـ بأنك جزء من هذا البلد. 
بريطانيا تمنح جنسيتها لمن يدخل البلاد بشكل شرعي بعد خمس سنوات يثبت فيها الشخص أنه يعمل ولديه ما يثبت أنه من "دافعي الضرائب". والحقيقة أنني طالما توقفت أمام فكرة أن يكون "العمل هو معيار المواطنة" .. العمل والعمل وحده هو جواز مرورك لكي تنتمي إلي "وطن" 
ليس مهما محل ميلادك ولا من هم أبويك وما هي ديانتك وتوجهاتك السياسية … المهم أن "تعمل" وأن تكون "مواطنا صالحا" بأداء ضريبة الدخل عن ما تتقاضاه من راتب. 
لن يسألك أحد في "بلاد الكفر" هذه عمن تكون أو عن ديانتك أو عن أبوك أو أمك أو إن اسمك محمد أو بطرس أو شالوم. لن يسألك أحد عن مهنتك هل أنت مذيع أو صاحب متجر أو عامل في شركة لجمع القمامة. كل ذلك لا يهم لأن المهم هو العمل واحترام قيمة العمل. وعدم التهرب من أداء الفروض القانونية. على مدي الاسابيع الماضية شهدت الساحة البريطانية جدلا سياسيا ساخنا كانت بطلته وزيرة الثقافة ماريا ميلر المتهمة بالتلاعب في دفاتر المخصصات المالية لها كعضوة في البرلمان. ويطالب الكثيرون بأقالتها على الرغم من أنها اعتذرت علانية عن وجود مغالطات في سجل المصروفات والتي ردتها ميلر لخزانة مجلس العموم علي الفور. لكن العامة في بريطانيا رأوا أن الوزيرة يجب أن تكون مثالا يحتذي به في الالتزام بالقانون. وعليه فيجب عليها الاستقالة وبالفعل استقالت من منصبها الوزاري.  
وفي قضية أخري رفض أعضاء بارزون في مجلس اللوردات وهو بمثابة "هيئة تشريعية استشارية" رفض التصديق علي نص قانون أقره البرلمان يسمح للحكومة البريطانية بنزع الجنسية البريطانية عمن يثبت تورطهم في أعمال إرهابية. ليس لانهم يساندون الأرهاب لكن لأن نزع الجنسية والمواطنة أمر جلل وكبير. 
بهذه المبادئ الراسخة بنت وتبني الأمم حضارتها. لذا أتعجب كثيرا مما اشهده الأن علي الساحة المصرية من امتهان لقيمة العمل واهدار لقيمة المواطنة. الجميع لم يعد الشغل الشاغل لهم سوي من سيكون غدا في كرسي الرئاسة وانخرط الجميع وتباروا في كيل التأييد لذلك المرشح أو ذاك. الاعلام والرياضة والشارع والمقاهي وتوتير وفيسبوك لم يعد يشغلهم من هموم الوطن سوي تأييد السيسي أو توجيه السباب أو الشتائم له. لا اعرف هل اصبح لدي مصر ذلك الفائض من الطاقات والأموال التي نرصدها لقضية واحدة فقط  السلطة وكرسي الرئاسة تحديدا وشخص الفريق السيسي ونعتبر أنه أما مصدر لكل سعادة أو أصل كل الشرور؟ 
أقول هذا وأنا أتعجب أن نصف مليون سوري في مصر الأن معظمهم وجدوا طريقا بشكل أو بأخر للعمل. فصاحب السوبر ماركت علي ناصية الشارع الذي اقطن فيه رجل سوري وجارة قريبتي سيدة سورية محترمة تكسب قوت أولادها ببيع المأكولات السورية الشهية المجهزة نصف تجهيز للجارات والصديقات اللاواتي يعملن وليس لديهن وقت للطهي أو أولئك المرفهات واللاواتي يفضلن قضاء الوقت أمام التلفزيون وغيرهن. وقبل أيام قالت لي صديقة أن حلاقا أردنيا يقوم بحلاقة شعر الرجال والأولاد في المنازل لانه لا يمتلك محلا ويتقاضي نصف ما يتقاضه الحلاق في المحل المجاور. 
وأنا لا أود بالطبع أن أقلل من شأن الرجال والنساء المصريين الكادحين الشرفاء وعملهم وجدهم. كما أن أشارتي لوجود الأخوة السوريين أو الاردنيين في بلادنا ليست أشارة خبيثة بأي حال. فانا نفسي مصرية وأعيش في بلد أوروبي واعمل فيه ولي ما للبريطانيين وعلي ما ما عليهم. لكنني اشعر اليوم بخيبة الأمل من كثير من المصريين الذين اختصروا قيمة العمل في مظاهرة .. اختصروا المطالبة بالحقوق بالشتائم والسباب. واختصروا الحوار المجتمعي في برنامج تلفزيوني .. اشعر بالأسي من الذين أختصروا الوطن في رجل وأعداء الوطن في جماعة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق