Translate

السبت، 21 سبتمبر 2013

روان وأخواتها



الاسم : روان ...
الجنس : أنثي ..
 السن: ثماني سنوات
الجنسية:  يمنية
الحالة الاجتماعية: زوجة.. 
الجسد جثة هامدة نتيجة تمزق في الاعضاء التناسلية في ليلة الزفاف  أفضي الي الموت ..
أعرف "روان" ..أعرفها جيدا ... يمكنني أن اغمض عيني وأتخيل كل تفاصيل حياتها في بلدتها الصغيرة النائية .. كل التفاصيل بالألم بالفرح بالدموع بالضحكات بالخجل البرئ الغاطس في ثوب أسود يلتف حول ساقيها الصغيرتين وغطاء الرأس الأبيض الباهت اللون الذي يداري خصلات شعرها الأسود..
لا احتاج للكثير من البحث والتدقيق في جوجل وشبكة الانترنت لأعرف أين ولدت روان ومن هو أبوها ومن هي أمها ومن هم أخواتها فالحكاية تتكرر بشكل مفزع مثل أشباح الموت التي تطل في الليالي الباردة .  
هذا ليس مطلع رواية ولا مرثية لبراءة روان التي انتهكت علي فراش "زفاف" مشؤوم.
لكن روان شئنا أم أبينا  أصبحت اليوم مجرد رقم .. ضحية جديدة من ضحايا زواج الأطفال التي تقول أرقام الامم المتحدة أنه يغتال براءة 14 في المائة من الفتيات اليمنيات اللولتي يتزوجن قبل سن الخامسة عشرة و52 في المائة اللواتي يتزوجن قبل بلوغهن سن الثامنة عشرة عاما. قبل أن ينضجن جسديا وعقليا ونفسيا وعاطفيا.. والمشكلة أن ذلك يستتبع حرمان هؤلاء الفتيات من التعليم وفرص الترقي الاجتماعي. لكن هذه ليست كل الحكاية ...    
لن يقرأ أبو روان هذه الكلمات فهو لا يفقه من الحروف سوي اسمه الذي وقع به عقد زواجها ولا يعرف من الأرقام سوي من يعينه علي عد حفنة الدولارات الزهيدة التي باعها بها لرجل يكبرها بعقود. يمكنني أن أجلس هنا وأكتب عنه ما أشاء .. انعته بالنعوت واصفه بما أريد من التجرد من الأبوة من عدم الانسانية من أنه باع لحمه ودمه. لكنني بالتأكيد لن اعرف كثيرا عن معاناته وهو يقف صفر اليدين أمام عشرات الأفواه التي تطالبه بالطعام والمصروفات كل صباح. 
أنا لا أسوق الأعذار له ولمن مثله من الآباء  لكن الجهل يمكن أن يقتل.. يقتل بالمعني الحرفي للكلمة وعندما يكون أكثر من نصف الشعب اليمني تحت خط الفقر لا يمكن أن تلوم الفقراء علي فقرهم. وعندما يكون اكثر من سبعة وثلاثين في المائة من اليمنيين لا يفقهون أبسط قواعد الكتابة والقراءة لا يمكن أن تعول عليهم في فهم أن زواج طفلة في عمر "روان" سيقتلها فجسد طفلة في هذا العمر الغض لا يمكن أن يتحمل معاشرة زوجية فتموت الطفلة في ليلة الزفاف بتمزق بشع في اعضائها التناسلية ومن يسعدها الحظ في الإفلات من جحيم الليلة الاولي ستعاني حتما من النزيف حاد في الليالي التالية ومن تفلت من كل ذلك وتحمل طفلا ستموت وهي تلد ولهذا السبب تعد نسبة وفيات الامهات عند الولادة في اليمن من أعلي المعدلات ليس فقط في العالم العربي ولكن في العالم كله . وتشير آخر الإحصائيات الي أن 365 أم يمنية من بين كل مائة الف تنتهي حياتهن وهن يلدن . ولهذا العدد الكبير من الضحايا تفسير فالعرف - وليس القانون - في المستشفيات اليمينية مثلا لا يسمح باستقبال النساء الا اذا كن بمعية أي ذكر زوج أب أخ أو حتي ابنها الصغير . وهذا العرف ساري الي يومنا هذا ويعني أن المرأة يمكن أن تنزف حتي الموت قبل أن يسمح لها بمجرد الدخول من باب  المستشفي.  
وهناك أسباب آخري كثيرة ومنها حرمان الفتاة من التعليم بسبب تقاليد بالية لا تعول كثيرا علي تعليم البنت وتري مستقبلها في الزواج  وهناك ظروف منطقية احيانا مثل بعد المدرسة بمسافة كبيرة جدا عن البيوت أو وجود مدارس البنات مثلا في وسط الاسواق المزدحمة وبدون أسوار أوعدم توافر المعلمة الأنثي فيرفض الاب أن تتعلم البنت علي يد مدرس ذكر واحيانا يكون مجرد عدم وجود دورات مياه للفتيات سببا يجعل الاسرة تتراجع يوما عن يوم عن تعليم البنت وتفضيل مستقبل الزواج لها لتصبح أما جاهلة بدورها عاجزة عن حماية ابنتها من مصير مظلم كما كان مصيرها هي مظلما.  
والمجتمع اليمني يشجع بل ويبارك زواج الصغيرات حتي أن الفلكلور الشعبي يتحدث أن مزايا الزواج بالصغيرة . ناهيك عما هو سائد في كثير من المجتمعات العربية التي  تعتبر أن نضوج البنت فيسولوجيا هو مؤشر علي أنها "جاهزة" للزواج وهو خطأ فادح وجريمة كبري. فالبلوغ الفسيولوجي للفتاة لا يعني أبدا أنها ناضجة بما يكفي لتحمل المعاشرة الزوجية والحمل والولادة في سن صغيرة وأحيل الكلام هنا الي العلامة البروفيسور خالد خالد أستاذ أمراض النساء والولادة في جامعة كولشيستر البريطانية والذي ربطتني به علي مدي سنوات علاقة عمل وصداقة عائلية. والذي يؤكد في كل حديث اجريته معه عن هذه القضية أن البنت في مرحلة البلوغ تكابد الكثير من التغيرات الفسيولوجية التي لا تعرف حتي عنها الكثير وتعاني من عدم انتظام الدورة الشهرية ونقص في الكثير من المواد الاساسية لنمو جسم سليم. كما أن الحالة النفسية المصاحبة لمرحلة البلوغ الفسيولوجي تكون متقلبة بشكل كبير وتفاجأ البنت بأن كل من حولها يدفعها الي الزواج ومعاشرة رجل يكبرها بعشرات السنين.
دائرة جهنمية تجد الفتاة اليمنية نفسها تدور في فلكها وتدور بلا نهاية والكارثة أنه بمجرد وقوع أحدي هذه الحوادث يتم التستر فورا عليها فتجد العريس يفر هاربا خوفا من العقاب وأهل العريس يحاولون التخلص من جثة العروس الطفلة وأهل العروس يحاولون التستر علي الجريمة كي يهربوا من المسؤولية. لذا لم اتفاجئ أبدا بمحاولة أحد المسؤولين اليمنيين التستر علي جريمة قتل روان بالادعاء أنها علي قيد الحياة ولم تتزوج. أصلا. ولم أعبأ كثيراً بالتحقق من كون هذا الكلام صحيحا أم لا. فروان مجرد اسم ورمز وحالة حدثت أمس  وتحدث اليوم وستحدث غداً  ما لم يستيقظ أصحاب الضمير في اليمن ويوافقوا علي تغليظ العقوبات علي زواج القاصرات علي الاب وعلي العريس ورفع سن الزواج وجعل التعليم إجباري حتي سن الخامسة عشرة عل الاقل حتي لا تتكرر مأساة روان ويعود اليمن كما علمونا في الكتب يمنا سعيدا بجيل مستقبل اقل قتامة من الحاضر. 

الأحد، 15 سبتمبر 2013

الإعلامي والسياسي والحقوقي


                        
اعترف أنني شعرت بالصدمة للوهلة الأولي التي اختفت فيها ما تسمي بالقنوات الدينية وقناة خمسة وعشرين الناطقة باسم جماعة الأخوان المسلمين من على شاشات التلفزيون . فذاكرتي لا تسعفني بتذكر أني شهدت شيئا مثل ما حدث سوي ما حدث عام ألف وتسعمئة وستة وتسعين في بريطانيا وكنت شاهدا علي حدوثه من قريب. عندما قرر الشريك التجاري لهيئة الاذاعة البريطانية وقف بث التلفزيون العربي ل بي بي سي والذي كان مشروعا مشتركا بين الجانبين  . كانت الإدارة وقتها تتمتع - بمقتضيات التعاقد مع الشريك السعودي - باستقلالية تحريرية كاملة. وعلى ذلك قررت إدارة التلفزيون العربي وقتها إذاعة حلقة من برنامج بانوراما الشهير عن حقوق الإنسان في السعودية. كانت قناعة الإدارة البريطانية للقناة وقتها أنه لا يوجد ما يبرر ألغاء الحلقة من البرنامج المدرج علي جدول القناة وأن هذا يعني محاباة الشريك التجاري. وقف جميع الصحفيون يشاهدون البرنامج علي شاشات الإذاعة الداخلية ويطلقون لخيالهم العنان في ردود فعل الشريك التجاري السعودي لكن لم يدر بخلد أيا من كان أنه في اليوم التالي ستكتب نهاية أول تجربة تلفزيونية ناطقة بالعربية لبي بي سي . في منتصف الظهر قُطع الارسال وطُلب من الصحفيين والمحررين أن يتركوا كل شيء كما هو وأن يأخذوا متعلقاتهم الشخصية فقط. 
لكن ظروف إغلاق القنوات الدينية وقناة خمسة وعشرين تختلف كثيرا في تفاصيلها عن هذا الحادث وجاءت في أوج أزمة سياسية طاحنة وشاهد عشرات الآلاف عبر يوتيوب مقاطع فيديو لقوات الأمن وهي تقوم باعتقال العاملين في هذه القنوات بتهم لا يعرف أحدا ما هي وبدون أي حكم قضائي. علي أن ذلك يماثل ما حدث لقناة الفراعين وصاحبها توفيق عكاشة الذي تم مطاردته واعتقاله علي الهواء ومن ثم إطلاق سراحه دون أن يعرف أحد لماذا وكيف اُعتقل ولماذا أُطلق سراحه. 
ولا يعنيني هنا أن أتوقف أمام جدل قضائي لست علي دراية بتعقيداته وتفاصيله التي يمكن أن يتوه فيها الكثيرون لكني أتوقف أمام قيمة الاعلام وما يقدم في هذه القنوات وغيرها.
 أول مرة انتبهت فيها  لوجود القنوات الدينية كانت قبل نحو ثلاث سنوات. كنت أقوم بزيارة لبلدة صغيرة في صعيد مصر هي مسقط رأس أبي. لاحظت أن كل بيت زرته من بيوت أقاربي وعائلتي أولاد عمومتي كان الجميع بلا استثناء  يتطلعون إلى شاشة إحدي هذه القنوات. ولا أبالغ إن قلت أنني اكتشفت أن الجميع لا يداوم سوي على مشاهدة هذه القنوات والمسلسلات الدرامية. ولفت نظري وقتها أن إحدي هذه القنوات تقدم مفاهيم مغلوطة عن الشيعة. كنت عائدة لتوي من طهران في زيارة عمل وعندما حاولت تصحيح ما يقال لم يكترث أحد فى البيت لما أقوله كثيرا. بينما بدا أن الجميع واثقون أكثر فيما تقوله هذه القنوات التي تتاجر بتجارة رائجة للغاية "الدين". وخرجت وقتها بقناعة مفادها أنه  لا يمكن إلا يلتفت المصريون إلي شخص جالس أمامهم يتحدث عن الدين أو بالاحري يتظاهر بالمعرفة  لشؤون الدين. 
كان من الواضح أن هذه القنوات أدت الغرض الذي أراده لها نظام مبارك. الحديث في الدين ولا حديث في السياسة. ولذا لم يكن مستغربا أبدا أن هذه القنوات لم تكن تتحدث في السياسة قبل الثورة والحقيقة أنه ليس لدي توثيق كامل لما كانت تبثه هذه القنوات لكن المؤكد أنها كانت تتمتع بشعبية جارفة لدي قطاعات كبيرة من الشعب المصري وخاصة لدي الطبقة الشعبية لذا اعتمدت الخطاب الدارج الذي يصل فى كثير من الاحيان إلى الفجاج  كما أنها حققت - ولا شك - أرباحا خيالية إثر ذلك. 
ولم يكن مستغربا أن تدخل هذه القنوات بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير على خط السياسة والخطاب العام. فهي على أي الأحوال بدأت فى جني ما استثمرت فيه من شعبية. او بالاحري شعبوية. فأطلقت لنفسها العنان في الخطاب السياسي الممجوج الذي لا يستند إلى اي حقائق بل مجرد تمرير رسائل سياسية واجتماعية تغلفها طبقة هشة من التدين الزائف. واتسع النطاق لتصبح ما يسمي بالقنوات الدينية أداة طيعة للهجوم على الخصوم دون أي رابط أو رادع وأغرقت نفسها فى خطاب أقل ما يقال عنه أنه "مستفز وبذئ" . واعتمدت قناة الفراعين نفس السياسة تقريبا مع اختلاف الأسماء والوقائع. 
واحقاقا للحق فلم تكن هذه القنوات تغرد خارج السرد فيما ذهبت اليه ولكنها كانت الأكثر نشازا والأكثر قبحا. ربما لانها كانت تستغل ما لا يجب استغلاله " الدين". وقد شهدت مصر ومازالت كما هائلا من "التسيب الإعلامي" فى أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير.  اصبح المذيع أو المذيعة يجلس كل ليلة أمام الكاميرا ليطالعنا بعدد من الأخبار القصيرة أو فقرات إخبارية محدودة ثم يمتطي صهوة جواده فيخرج إلينا بما بدا له من آراء شخصية وأحكام لا تستند الي منطق ولا صواب. نسي الإعلامي والإعلامية فى مصر الفارق الجوهري بين "الشاشة" و "الكنبة". فسمحوا لأنفسهم أن يقولوا ما يشاؤون وما يرغبون. والجميع يستوي في ذلك من القنوات الفضائية والأرضية وتلفزيون الدولة والإعلام الخاص. 
ولن أتوقف أمام القنوات الخاصة فهي "موال لوحده". ورأس المال بالضرورة هو الذي يملي السياسة التحريرية. وأتذكر جيدا حديثاً لرجل الأعمال المعروف احمد بهجت للتلفزيون المصري قال فيه إنه لم يفكر أبدا يوما فى افتتاح قناة تلفزيونية لكنه وجد نفسه ينفق الكثير من الأموال  على الإعلانات فى القنوات الأخري فقال لنفسه ولماذا لا يكون لى قناة وبالمرة أوفر مصاريف الإعلانات!!  فى الحقيقة احترمت صدق الرجل وصراحته. المسألة لا تعدو كونها صفقة تجارية أي بزنيس. والبزنيس لا يعني بالضرورة عائدا ماديا ولكن قد يكون عائدا سياسيا أو استثمار لمصلحة طرف أو غير ذلك. وأحسب  أن جميع القنوات الخاصة تقريبا تعتمد نفس هذه السياسة. 
لكن ما أتوقف أمامه قليلا هو الاعلام المملوك للدولة هذا الاعلام الذي يجب أن يخدم "المواطن". وسأعود قليلا الي الوراء وانتقي ثلاثة نماذج  للتدليل على ما أقصد والسبب في انتقائها ليس لإنها النماذج الوحيدة ولكن لإنها قد تكون الأفضل في عرض وجهة نظري . والثلاثة لها علاقة بالاعلام المملوك للدولة خبر يشير إلى  أن لجنة تحقيق في المهنية في التلفزيون المصري توصلت الي أن سياساته تعاني من التخبط خاصة في أوقات الأزمات حيث ينتظر الأوامر .
 المذيعة اللامعة والمرشحة السابقة لرئاسة الجمهورية بثينة كامل تخطئ (عن عمد) وتقول ونواصل النشرة "الإخوانية. والزميلة الفاضلة هالة فهمي ترفع أمام جمهور برنامج "ضمير" علي القناة الثانية "كفنها" احتجاجا علي سياسيات الإعلام المصري "المضللة" لمجريات ما يحدث حقيقة في الشارع حسبما قالت. 
الخبر الأول أثار إعجابي لأن اللجنة كانت صادقة في تقييمها لأداء التلفزيون المصري وكان لديها الشجاعة الكافية لعرض النواقص ووضع أصبعها علي موطن الخطأ وهذا أول طريق النجاة في رأيي . المشكلة إذا في عدم وجود قواعد تحريرية يرجع إليها العاملون كميثاق شرف يلتزمون به مهما تغيرت الحكومات وتعاقبت التيارات السياسية .
موقف السيدة  بثينة كامل التي أجل لها كل الاحترام مهنيا وشخصيا واحترم نضالها من أجل المرأة والحريات أثار إعجابي لأول وهلة بشجاعتها في أن تقول ما ترغب دون الالتفات لعواقب ذلك . لكن علي المستوي المهني أصابتني حالة من الارتباك . هل هي بثينة كامل المذيعة أم الناشطة السياسية والمناضلة ؟ من الواضح أنه كان لديها وقتها الكثير من الاعتراضات علي الصياغة التحريرية للنشرة ولكن هل الاعتراض يجب أن يكون علي شاشات التلفزيون ؟ وماذا عن المشاهد الذي ينتظر خبرا دون تعليقات او تلميحات او مشاجرة علي الهواء بين مذيعة ومحرر نشرة ؟ 
أما الزميلة  هالة فهمي فلا اعلم عنها الكثير لكن أصدقاء محترمين أثق في حكمهم يشيدون بشجاعة هذه السيدة وصمودها من سنوات داخل ماسبيرو . وقد كبرت كثيرا في عيني وهي تتحدث لعمرو أديب كيف أنها لا تود أن تستبدل عملها الحالي في القطاع الإعلامي الحكومي بعمل في قناة خاصة لانها تعتبر أنها "تخدم الشعب" . لكن هذا لم يغير موقفي المهني مما فعلته. احترم انتماءاتها السياسية واحترم صمودها وصدقها مع النفس لكن جميعها صفات وميول تخص الشخص نفسه ولا تعني المتلقي في شيء ومشهد "الكفن" قد يثير الإعجاب لفترة لكنه لن يترك أثرا ابعد من ذلك في رأيي المتواضع.
فى بريطانيا حيث اعمل وامتهن الاعلام هيئة تسمي اختصارا Ofcom وهي الهيئة المنظمة لخدمات الراديو والتلفزيون.  هذه الهيئة من وظيفتها التأكد أن المشاهد أو المتلقي البريطاني يستفيد من الخدمة الإعلامية بالشكل الأفضل. كما أنها تحقق في الشكاوى التي يتقدم بها عامة الناس من خدمة إعلامية معينة. فعلي سبيل المثال أصدرت الهيئة قبل اسابيع قليلة إنذارا لقناة صفا الشيعية بعدما جاء إليها شكاوي من أن القناة توجه سبابا إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأن هذا النهج يسيء إلى المسلمين السُنة ويجرح مشاعرهم. تحققت الهيئة من الشكوي وخلصت إلى أن الشكوي حقيقية  فما كان منها إلا إن أصدرت إنذارا للقناة أما التوقف أو الإغلاق بمقتضي إذن قضائي. نعم  حتى في بريطانيا التي تفخر بعراقة ومصداقية أعلامها هناك حدود للحرية الإعلامية ما يجب وما لا يصح المسموح والخط الأحمر.  
ربما من الظلم البين أن نقارن ما يحدث في بريطانيا بما يحدث في مصر في المجال الإعلامي. ليس فقط لأن المحيط الإعلامي في بريطانيا اصبح ناضجا بما يكفي لأن يصوب نفسه. لكن لأن المشهد السياسي في مصر أصبح معقدا بما يكفي لأن يكون لكل طرف حسابات ومعادلات وتصفية حسابات وغالبا ما يكون الإعلام ورقة رابحة في هذه اللعبة السياسية ولو لمرحلة مؤقتة. 
 سوف يستمر التخبط الإعلامي وسوف تجدون الكثيرين  يتجرأون علي محاصرة الاستوديوهات والقنوات وإرهاب المذيعين والإعلاميين. وسوف يستمر الكثيرون ممن لا يفقهون في أبجديات الأعلام شيئا يتقمصون دور المذيعين ويمتطون صهوات الشاشات الفضائية. وهؤلاء لا أجد في نفسي أي رغبة حقيقة في أن أناقش ما ارتكبوا ويرتكبون لأنني ببساطة لا اعتبرهم إعلاميين أساسا. 
الحل في أن يجد الإعلاميون المصريون المحترمون الحقيقون أرضية واحدة يتفقون عليها. اسمها القواعد المهنية والحيادية. صحيح انه لا يوجد حياد في المطلق لكن يكفي شرف المحاولة. وعلي كل مكان أن يجد تلك الأرضية المشتركة حتي لا نفتح بابا للمزايدات والإعلام والإعلام المضاد. 

بئر الذكريات


لا تجد رأسها اي راحة علي اي وضع. لا علي جانبي خديها الذي تسلمه للحشية التي قسا قلبها القطني فاصبح كالحجر ولا لرأسها الذي تطن في جنباته أزيز المروحة القديمة التي لا تطفق رئتيها سوي هواء يشبه فحيح الأفاعي.
تنظر للشباك المغلق وتعاود النظر الي الدولاب. طاقة الشباك ارتفعت في السقف فشعرت كأنها سجينة الغرفة. الباب المغلق يكرس لعزلة قلبها في البيت.
تحاول عبثا أن تغفو قليلا. استيقظت علي جلبة المنزل باكرا وترديدات محفوظة يلفظها أصحابها في وجهها كما يبصقون ... لا حياة ... لا مبالاة. تعلقت صغيرتها برقبتها تمنحها بعض الأمان اللحظي. تستمر الجلبة تكتم علي أنفاسها بعد قليل صمتٌ كصمت القبور ....
لكن بئر الذاكرة ينفتح علي مصراعيه ... ضفائرها المقعوصة بعناية بالشرائط الحمراء الجديدة والثوب الذي سهرت امها حتي الفجر كي تضع اللمسات الاخيرة عليه يقف امام عينيها في فجور معلقا علي باب الدولاب ... آه أعتصرتها حسرة علي غياب صاحبة الخاتم الوردي.... فاض بئر الذاكرة بدموع ساخنة 

الثلاثاء، 3 سبتمبر 2013

شبح "كيلي" وانتصار الأكاذيب

 "ديفيد كيلي" قفز في ذهني الاسم فجأة مثل الشخصيات الأسطورية وأنا أتابع تفاصيل تفاعل الغرب مع تطورات الأزمة السورية وما قيل عن استخدام الاسلحة الكيميائية في ريف دمشق. ولمن لا يعرف "ديفيد كيلي" فلهم العذر فالرجل لم يرد اسمه في الأخبار سوي مرات قليلة تعد علي الأصابع لكنها - في رأيي -  كافية كي يحفر اسمه في ذاكرة الكثيرين وكافية لكي يعود الاسم ليلاحق الكثيرين في صحوهم ويقض مضاجهم بالليل  مثل الأشباح . 
"ديفيد كيلي" لمن لم تسعفه ذاكرته هو مفتش الاسلحة البريطاني الذي سرب (علي الأرجح) معلومات الي هيئة الاذاعة البريطانية BBC تفيد بأن مسؤولين في الحكومة البريطانية تلاعبوا بأدلة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل لتبرير غزو العراق.
بدأ الجدل بتقرير اعتيادي  لمراسل BBC أندرو غيليغان يؤكد أن "مصدرا كبيرا" في المخابرات ابلغه أن الحكومة البريطانية آنذاك بزعامة "توني بلير" تلاعبت بمعلومات استخباراتية بشأن العراق. قامت الدنيا ولم تقعد بعد ذلك التقرير الذي لم يستغرق اذاعته على الهواء أكثر من دقيقتين اثنتين.    
لم تهدأ الزوبعة واتخذت ردود الفعل تتوالي وتتصاعد. ومارس "بلير" شخصيا ضغوطا غير مسبوقة علي BBC وعلى مراسلها للكشف عن المصدر ... هذا المصدر الذي فضحه وفضح كذبه أمام العالم .
تشبث "غريك دايك" المدير العام لهيئة الاذاعة البريطانية بحق المراسل في عدم الكشف عن مصدره وأعلن أن BBC مستقلة ولن تخضع لتهديدات أي كانت ..لكن ضغوط الحكومة استمرت في التصاعد والتصعيد بحجة أن الامر يتعلق بالأمن القومي البريطاني وحين يتعلق الامر بالأمن القومي فعلي الجميع أن ينصاع وينسي حقوق المواطن في المعرفة وحقوق الصحافة في أن تكون سلطة رابعة أو تكون لها استقلالية.
كانت معركة شرسة بحق استخدم فيها" بلير" نفوذه وحيله وسلطاته ودهاءه. وكان له ما أراد. 
لم يتوقف "توني بلير" لحظة لنفي الكذب الذي لاحق حكومته ومسؤوليه. لم يعترف أبدا بأن حكومته لفقت أدلة علي وجود أسلحة دمار شامل في العراق لتبرير الغزو. تجاهل كل ذلك وأصبح نصب عينيه شئ واحد أن يعرف من الذي وشي به وأن يعاقب BBC ومراسلها ومديرها علي التجرؤ علي التسبب في إحراج كبير لحكومته وجعله مضغة في أفواه أصدقائه قبل أعدائه . وصمم على الانتقام وكان له ما أراد . لوقت غير قصير لم يسمع احد شيئا في أروقة BBC ولا الصحافة عن "أندرو غليغان" حتي ظهر فيما بعد ككاتب متواضع في احدي الصحف اليمينية . انتهي مستقبله في BBC وطال الوقت أم قصر وبعد حرب خفية أطيح كذلك  ب "غريغ دايك" من منصبه كمدير عام في صفقة لم يعرف أحدا بنودها حتي اليوم علي الرغم من أنه كان واحدا من انجح المديرين وأكثرهم ألمعية علي الاطلاق. أما "ديفيد كيلي" فقد كشف عنه الغطاء وخضع لاستجواب برلماني قاس وتم وقفه عن العمل ووجد مقتولا أو منتحرا بقطع شرايين رسغه بعد نزهة بمفرده في مقاطعة أوكسفورد شاير حيث كان يعيش حياة هادئة. 
رواية تصلح بامتياز لانه تكون فيلما يحصد جوائز عالمية ونهاية مأساوية تليق برواية شكسبيرية. 
مات "ديفيد كيلي" أو قتل لا يهم لكنه بقي وسيبقي شاهدا علي إرادة الكذب والتدليس عندما تنتصر علي الحق والأمانة.  بقي شاهدا علي أن الغرب عندما يريد يفعل مهما كان الثمن. وأن المبادئ والحقوق وقواعد الديمقراطية يمكن أن تذهب لأول سلة قمامة اذا ما أرادت القوة الغاشمة أن تقول كلمتها. 
لست مغرمة بالحكايات والروايات ولكني مولعة بقراءة المواقف ورصدها. 
ويبدو أن الغرب لا يكلف نفسه مشقة إبداع تجارب جديدة عندما يتعامل مع العالم العربي. أصبح وجهة مكشوفا لدرجة أنه لا يأبه حتي بتأليف رواية جديدة أو تلفيق أدلة. لا يهم إن جاء مفتشون دوليون عن سلاح كيميائي بتقرير يدين نظام بشار الاسد أو المعارضة أو طرف ثالث. فالنتيجة محسومة سلفا وتقارير الاستخبارات الامريكية في التنصت علي ضباط الجيش السوري وهم يتحدثون عن سلاح وأسلحة كيميائية  جاهزة في ورقة ما في درج ما في مكتب ما لمسؤول ما في الادارة الامريكية وعدا ذلك لا يهم. 
لا يهم أن يسأل أحد لماذا انتظر بشار الاسد الي أن يأتي المفتشون الدوليون الي دمشق في عقر داره ليشن هجوما بالسلاح الكيميائي علي الغوطة التي تبعد عدة كيلو مترات عن قلب العاصمة السورية. لا يهم أن يسأل أحد عن الاستفادة التي يمكن أن تعود على بشار والحكمة في أن يورط نفسه في ذلك في هذا الوقت بالذات بقضية من هذا النوع . لا يهم أبدا أن يتحدث أحد عن المنطق في أن المعارضة السورية هي المستفيد الوحيد من تحريك القضية بعد تراجع الغرب عن التسليح المباشر لها. لا يهم أن يضع أحد احتمال أو فرضية أن الاسلحة الكيميائية قد وقعت في يد القاعدة أو جبهة النصرة أو غيرها.  لا يهم أن يقول العقلاء أن نظام بشار قتل ويقتل كل يوم اضعاف وأضعاف القتلي في الغوطة. لا يهم كلام الخبراء العسكريين من أن توجيه ضربة عسكرية محدودة لبشار وجيشه سيجعل منه بطلا وضحية لا مجرما يستاهل العقاب.
لا يهم كل هذه الفرضيات التي  يطرحها بالمناسبة اليوم رجل الشارع في الغرب وليس رجل الشارع العربي. 
القضية باختصار أن السيناريوهات جاهزة وخطط التقسيم معدة والتدخل قادم قادم ولتسقط عاصمة عربية جديد ويضيع ما تبقي من شعب صمد للتنكيل والقتل والتشريد على مدي عامين ونصف. ولتنتصر إرادة الكذب.