Translate

الثلاثاء، 11 ديسمبر 2012

أمة بلا دستور

ربما لا يعرف الكثيرون أو يشعرون بالدهشة أن بلدا مثل بريطانيا يقال إنها بلد مؤسسات لا دستور لها. لا يوجد في بريطانيا شئ اسمه "دستور" هناك "دستور غير مكتوب" وتعتبر بريطانيا متفردة في هذه الناحية .. ويمكن تفسير عدم وجود دستور بريطاني نظرا لتاريخها. فالدول التي تقوم فيها ثورات أوتعيش تغيرا في النظام لابد لها أن تقوم بوضع دستور يحدد ويقنن سلطات الدولة ومؤساساتها الكبيرة وينص علي توزيع الأدوار عليها وينظم علي العلاقة بين بعضها البعض. وفي المقابل ينص علي الحريات الأساسية للأفراد. 
لكن بريطانيا علي العكس من ذلك لم يكن في تاريخها من انقلابات وتحولات تستدعي كتابة دستور مما يعكس حالة الاستقرار النسبة التي عاشتها البلاد. وبالتالي لم يكن هناك حاجة لدستور لتقنين العلاقات الأساسية الثابتة بين سلطات الدولة الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية. 
ولكن السؤال الجدير بالاهتمام هو كيف عاشت الأمة البريطانية دون دستور مكتوب ؟
 الدستور البريطاني تحول وتطور عبر السنوات ليس في كتاب مرجعي أو بنود مكتوبة يتم الرجوع إليها كلما استدعي الأمر ولكن الدستور بالنسبة لبريطانيا هو عبارة عن مجموعة من القوانين الإلزامية والمواثيق والمعاهدات والاتفاقيات وكذلك القرارات القضائية. 
الدستور البريطاني ملخص في ثماني كلمات انجليزية فقط : what the Queen in parliament enacts is law   فماذا تعني هذه الكلمات الثماني السحرية ؟ تعني أن البرلمان بمقتضى السلطة المخولة له من التاج (ممثلا في الملكة) يقوم بسن القوانين التي لا يمكن معارضتها. 
هذا بالطبع الي جانب مبادئ أساسية تشكل دستورا غير مكتوب : حكم القانون ومبدأ فصل الحكم الي أفرع ثلاثة تنفيذي وتشريعي وقضائي ومبدأ مركزية الدولة في سلطة البرلمان هذا القابع في وستمنستر في قلب العاصمة لندن والذي تخضع حتي مجرد ترتيب جلوس مقاعد الحكومة والمعارضة تقاليد ترجع لثمانية قرون وهي تقاليد مثيرة للاهتمام وربما نفرد لها مساحة في مقام آخر. 
لكن التقاليد ليست المهمة في العمل البرلماني بدرجة أهمية البرلمان وسلطاته. فالبرلمان يعبر عن سلطة الشعب والبرلمانيون يختارهم الناس عن وعي وثقة وتدقيق وتمحيص من خلال عملية انتخابية حرة . 
البرلمان البريطاني -مع ذلك- يخضع بالطبع للقوانين والمواثيق الدولية وخاصة في مجالات الحريات وحقوق الأنسان وهذا يعني بالضرورة ألا يتعارض ما يتم سنه من قوانين في برلمان وستمنستر مع تلك المواثيق. كما أن البرلمان اضطر للتخلي أيضاً عن سلطاته المطلقة تلك لدي انضمام بريطانيا الي الاتحاد الأوروبي عام ألف وتسعمئة اثنين وسبعين. وهذا يعني أن البرلمان البريطاني عليه أن يتبني القوانين الأوروبية ويطوع قرارته بما يتلاءم معها. 
وكيف هي الحال إذا حدث تعارض ؟ يلجأ الناس للمحكمة العليا لتغير القانون البريطاني. كما هو الحال في قضية شهيرة عرضت علي المحكمة العليا وكانت محل جدل ونقاش شارك فيه المجتمع بأسره . بطل القضية توني نيكلسون رجل من عامة الناس تطلب  يعاني من شلل رباعي وشلل في وظائف أعضاءه الداخلية منذ عام الفين وخمسة لكن "توني"  لا يرغب في الاستمرار في حياته بهذا النمط وفي نفس الوقت هو لا يقوي علي حقن نفسه بحقنة مميتة ولا يقوي علي السفر خارج بريطانية لدولة تبيح القتل الرحيم. القانون البريطاني لا يسمح بالقتل الرحيم وأي شخص يساعد "توني" علي إنهاء حياته بشكل ما يضع نفسه تحت طائلة القانون وعقوبة تصل الي السجن أربعة عشر عاما. خاضت الزوجة "سوزان ماك أرثر" معركة كبري في البرلمان والإعلام والمحكمة العليا من أجل تحقيق رغبة زوجها في أن ينهي حياته علي النحو الذي يرغب بكرامة. اشترك المجتمع باسره في الحوار فريق يدافع وفريق يرفض وثالث علي الحياد وقدم الإعلام فرصة للجميع كي يدلي برأيه ويدافع عن وجه نظره. 
في نهاية المطاف لم تغير المحكمة العليا القانون ولم تجبر البرلمان البريطاني علي اتباع القانون الأوروبي بشكل أعمي. قدرت المحكمة العليا أن عموم المجتمع البريطاني باخلاقياته وتقاليده المحافظة لا يتقبل بعد فكرة تقنين القتل الرحيم لكنها قررت منح إذنا خاصا لزوجة  توني نيكلسون وطبيبه في مساعدته علي إنهاء حياته بعد أن اقتنع القاضي بدوافعه وتقديرا لحالته. 
اعتقد أن لديكم قناعة راسخة الآن أن بريطانيا لا تحتاج الي دستور. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق