Translate

الخميس، 20 ديسمبر 2012

القضاء وذاكرة الأفيال



 مشهدان لا تبرح وسائل الأعلام البريطانية أن تطرحهما مرة تلو الأخري هذه الأيام . وبقدر الألم الذي تستحضره الحادثتان  يأتي معهما اليقين بأنه عندما يتعلق الأمر بحقوق الضحايا .. فان القضاء البريطاني يتمتع بذاكرة الأفيال.
المشهد الأول ترجع فصوله الي عام ألف وتسعمائة وتسعة وثمانين .. الي حادثة شهيرة عالميا فهي تظل أسوأ كارثة في ملاعب كرة القدم علي الإطلاق ولا يضاهيها في ذلك سوي مذبحة بورسعيد. حيث قُتل ستة وتسعون من مشجعي فريق ليفربول سحقا بالأقدام في  ملاعب نادي شفيلد فيما يعرف إعلاميا بكارثة هيلسبرة.
خلصت تحقيقات الشرطة وقتها إلي أن عدد كبير من الضحايا - وبينهم أطفال - كانوا مخمورين كما أرجعت تضاعف عدد الضحايا الي ما يعرف بثقافة الهليجنيز بين المشجعين الأنجليز والتي تقارب بدروها أسلوب اولتراس الأهلي أو وايت نايتس الزمالك في الملاعب المصرية .

هذا الأسبوع أصدرت المحكمة العليا حكما بضرورة فتح التحقيق من جديد في القضية بناء علي تحريات النائب العام الذي وصل الي قناعة أن التحقيقات التي أجريت قبل ثلاثة وعشرين عاما - والتي خلُصت الي أن الأمر كان حادثا مأساويا - غير كافية وينقصها الكثير من العناصر التي يمك أن تحدد المسؤولية الجنائية عن وفاة هذا العدد الكبير من الضحايا في ظروف أقل ما يوصف أنها غير طبيعية. وألمحت وزير الداخلية "تريزا ماي" الي أن التحقيق سيطال أيضاً إتحاد الكرة الإنجليزي ومجلس بلدية شافيليد لسماحهما بإقامة المباراة في ملاعب نادي شافيليد - علي الرغم من أنها لا تمتلك شهادة تثبت صلاحية عناصر تأمين إقامة مثل هذه المباريات.
التحقيق الجديد سيطال بالطبع شرطة شافيليد والتي وُجهت اليها أصابع اتهام بتلفيق أدلة للضحايا والزعم بأنهم كانوا مخمورين وقت الحادث - حتي الاطفال منهم . ولذا سيجري التحقيق الجنائي بموازة تحقيق داخلي تجريه الشرطة لتحديد المسؤولين عن هذه المخالفات الجسيمة. 

لم يكن الطريق سهلا واستغرق الأمر عملا شاقا ومضنيا من أسر الضحايا علي مدي ثلاثة وعشرين عاما من أجل تحقيق العدالة لذويهم الذين لاحقتهم سمعة المارقين المخمورين الخارجين عن النظام والقانون. لم يأبه أسر الضحايا بالتقارير الصحفية التي نهشت سمعة من يحبون ولا لتقارير الشرطة التي كان كل همها أن ترتب "تقريرا" يلوم الضحايا فقط لأن لا صوت لهم. فكانوا هم صوت قتلاهم.

 لم يكتفوا بالصراخ والعويل والوقوف علي أبواب الحكومة يطلبون العدالة الضائعة بل بحثوا عن نائب في البرلمان تبني قضيتهم وتقدموا بعريضة جمعوا عشرات الآلاف من التوقيعات عليها لفتح التحقيق من جديد. ووقفوا هذا الأسبوع أمام مقر المحكمة العليا يحضنون بعضهم البعض ويهنئون أنفسهم علي ما حققوا. الأمر الآن في يد العدالة التي لن تخذلهم هذه المرة فقد علم الناس جميعا أن ليس بوسعهم أن يقتلوا هؤلاء الضحايا مرتين. 

المشهد الثاني بطله مقدم برامج شهير في تلفزيون بي بي سي اسمه "چيمي ساڤل " طالما كان وجها معروفا ليس فقط في دوائر الأعلام ولكن كوجه اجتماعي شهير. عُرف بمساهماته السخية في كبريات الجمعيات الخيرية خاصة تلك التي تعني بالاطفال. لم يكن "ساڤل" إعلاميا عاديا ولكن كان ملء السمع والبصر واستحق عن مساهماته المجتمعية لقب سير. وتوفي أوائل العام الماضي.  بدأ الأمر ببرنامج استقصائي تلفزيوني علي شبكة آي تي ڤي يقول إن  "ساڤل" ذي الضاحك المرح المحبوب كان له وجها آخر .. مخيف مرعب وشيطاني ..تحدث البرنامج الي عدد من النسوة قلن إنهن تعرضن لاعتداءات جنسية من الرجل عندما كن بعد فتيات مراهقات ولم يكن بوسعهن الإبلاغ عنه إما لخوفهن من سلطاته أو لأنهن كن صغيرات غريرات لم يدركن ما يحدث. وكأن النسوة الثلاث فتحن علبة مليئة بالديدان... توالت البلاغات عن حالات اعتداءات جنسية كثيرة ارتكبها "ساڤل" بمفرده أوبرفقة آخرين من المشاهير والإعلاميين وتواطيء الجميع علي الصمت خوفا ورهبة منه. 
لم يقف الأمر عند هذا الحد. فقد أثيرت قضية أكبر حيث بدأت أصابع الاتهام تشير الي مديرين وصحفيين ذوي حيثية في بي بي سي بأنهم حاولوا التستر عليه ومنع إذاعة برنامج يتحدث عن نفس الاتهامات قبل عام. تدحرجت رؤوس كثيرة وتوالت الاستقالات والوقف عن العمل من العديدين داخل المؤسسة الإعلامية العريقة وعلي رأسها استقالة مديرها العام جورج انتوسل بعد خمسة وخمسين يوما فقط في منصبه. 
وما زالت الموجات التي اثارها الحجر الذي اُلقي في البركة الراكدة تتسع. أجرت بي بي سي تحقيقا مستقلا برأ العديدين من المديرين من تهمة التستر علي "ساڤل" لكنه وجه تأنيبا قاسيا لهم بالقصور في الكشف عن علبة الديدان التي كانت تمرح بينهم دون أن يكشفها أحد. 
التحقيق الجنائي طال العديدين ممن عاصروا "چيمي ساڤل" من معدين ومخرجين علي جرائم ارتكبوها قبل نحو ثلاثين عاما سواء بالاشتراك معه أو التستر عليه. أما هو وقد وري الثري فلم تجد عائلته من اعتذار تقدمه لضحايا سوي أن تزيل شاهد قبره أما الحكومة البريطانية فتبحث في أمكانية تغيير القانون الذي لا يتيح نزع الألقاب عمن ماتوا حتي يمكن تجريده من لقب "سير". 
حقاً  ... إن الله لينصر الأمة العادلة حتي وإن كانت كافرة ولا ينصر الأمة الظالمة حتي إن كانت مسلمة. 

الجمعة، 14 ديسمبر 2012

الاستفتاء وديكتاتورية الأغلبية


يعد الاستفتاء من أكثر الوسائل الرائجة في الوقت الراهن لاستجلاء رأي العامة بشكل ديمقراطي ومباشر.
وتستقطب الاستفتاءات اهتماما كبيرا من وسائل الأعلام العالمية في الآونة اخيرة نظرا لأن معظمها تتم علي انفصال مناطق وكتل سكانية عن البلد الأم . كما حدث مؤخراً في الاستفتاء علي انفصال إقليم كاتالونيا عن إسبانيا. 
غير أن الاستفتاء يبقي مجرد وسيلة لقراءة مؤشرات الرأي العام في الدول صاحبة الديمقراطيات العريقة مثل بريطانيا. حيث تحتفظ الحكومة في نهاية الأمر بحق أن تتخذ القرارات النهائية وفق ما يتراءى لها من المصلحة الوطنية وتقييم الأمور بمنظور عملي حسب معطيات الواقع وبالتشاور مع نواب البرلمان بعد مناقشات برلمانية وافية. 
ماذا يعني هذا في الواقع العملي ؟  يعني أن الحكومة - وبالتشاور مع نواب البرلمان- قد تتخذ قرارا في نهاية المطاف بتجاهل نتائج استفتاء ما إذا ما رسخ لديها قناعة أن المصلحة العامة لا تحبذ ذلك. ويصبح ذلك لازما أيضا  إذا كان الأقبال علي التصويت في الاستفتاء ضعيفا. وغالبا ما يتم تجاهل نتائج أي استفتاء إذا كانت نتيجة التصويت أكثر من النصف بقليل.
في مثل هذه الأوضاع علي الحكومة ( المشكلة من أكبر كتلة برلمانية تفوز في الانتخابات العامة ) عليها بالطبع أن تتحمل عواقب مثل هذا الأمر من غضب شعبي وبالتالي خسارة التأييد في البرلمان في الانتخابات التالية. 

علي مدي سنوات طويلة قضيتها في أنجلترا سمعت عن الاستفتاءات ولم أشهدها. وبالأحرى شهدت واحدا فقط منه وهو الذي اجري العام الماضي لإجراء تعديل علي نظام انتخاب والذي صوت فيه الناخبون ب "لا" وكان ذلك علي الأرجح لأن النظام المقترح كان أكثر تعقيدا مما يستوعب الناخب.  استفتاءا آخر كان محل تندر فقد كان سُئل سكان العاصمة البريطانية إن كانوا يفضلون أن يتولي عمدة لندن شؤون لندن فحسب أو لندن وضواحيها. هذا الاستفتاء كان من السخف بحيث لم يشارك فيه أكثر من أربعة وثلاثين في المئة من الناخبين الذين يحق لهم التصويت. 
قلت انجلترا ولم أقل بريطانيا لان ويلز شهدت استفتاءا مهما علي الانفصال عن بريطانيا وكانت النتيجة ب "لا" وتستعد اسكتلنده لاستفتاء مماثل
كما أن أيرلندا الشمالية شهدت بدورها قبل سنوات استفتاءا تاريخيا أيضاً كانت نتيجته الموافقة علي اتفاقية السلام المعروفة باسم "غود فراي داي". 

أكبر استفتاء يحتل جدلا سياسيا واسعا في تاريخ بريطانيا هو الاستفتاء علي وضع بريطانيا في الإتحاد الأوروبي والبقاء في منطقة اليورو. تعهدت حكومة العمال منذ عام ألف وتسعمائة وسبعة وتسعين بإجراء مثل هذا الاستفتاء ولم يتم الي الآن. وذهبت حكومة العمال وجاءت الحكومة الائتلافية من حزب المحافظين وحزب الأحرار الديمقراطيين ومازال الاستفتاء حول وضع بريطانيا في الاتحاد الأوروبي يراوح مكانه. 
والمثير للاهتمام أن حزب المحافظين الذي كان يضغط علي الحكومة العمالية من أجل  إقامة مثل هذا الاستفتاء عندما كان في صفوف المعارضة.. يقدم الآن رجلا ويؤخر الأخري  في إقامة مثل هذا الاستفتاء. وآخر ما تفتق عنه ذهن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الآن هو أن الاستفتاء من أكثر الوسائل شفافية لقراءة الرأي العام في قضية بريطانيا والاتحاد الأوروبي لكنه لا يفضل الاستفتاء علي البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي لكن علي "وضعية" بريطانيا في الإتحاد الأوروبي. 
يدرك رئيس وزراء بريطانيا وزعيم حزب المحافظين حاليا وهو في موقع المسؤولية أنه لا يمكن أن يغامر بوضع أمر جد خطير مثلبقاء بلاده في الاتحاد الأوروبي أمام العامة. أولا لانه يخشي المجازفة بسؤال
الناس حول ذلك الأمر ولذلك حرّف القضية واسمها "وضعية" عوضا عن "بقاء". ثانيا لأن الأمر - في تصور
 القائمين عليه من ساسة واقتصادييين - أعقد بكثير من أن يُسأل عنه عامة الناس مخافة أن يكون تقديرهم
متأثرا إما بالأعلام الذي -وإن اجتهد لوضع القضية في نصابها لن يكون منصفا خاصة وأن الناس تأثروا كثيرا بما يسمعون من كوارث مالية متتالية لحقت بالاتحاد الأوروبي خلال العامين الماضيين فتصوروا أن الأتحاد الأوروبي بيت تشتعل فيه النيران وعليهم أن يهربوا منها.
 يمكن القول ببساطة إذا أن التجارب الديمقراطية تثبت أن الاستفتاء -وإن كان  وسيلة ديمقراطية - الا أنه يبقي مجرد استقراء لاتجاهات العامة من الناس قد تصيب وقد يجانبها الصواب  فحذاري من ديكتاتورية الأغلبية. 

الثلاثاء، 11 ديسمبر 2012

أمة بلا دستور

ربما لا يعرف الكثيرون أو يشعرون بالدهشة أن بلدا مثل بريطانيا يقال إنها بلد مؤسسات لا دستور لها. لا يوجد في بريطانيا شئ اسمه "دستور" هناك "دستور غير مكتوب" وتعتبر بريطانيا متفردة في هذه الناحية .. ويمكن تفسير عدم وجود دستور بريطاني نظرا لتاريخها. فالدول التي تقوم فيها ثورات أوتعيش تغيرا في النظام لابد لها أن تقوم بوضع دستور يحدد ويقنن سلطات الدولة ومؤساساتها الكبيرة وينص علي توزيع الأدوار عليها وينظم علي العلاقة بين بعضها البعض. وفي المقابل ينص علي الحريات الأساسية للأفراد. 
لكن بريطانيا علي العكس من ذلك لم يكن في تاريخها من انقلابات وتحولات تستدعي كتابة دستور مما يعكس حالة الاستقرار النسبة التي عاشتها البلاد. وبالتالي لم يكن هناك حاجة لدستور لتقنين العلاقات الأساسية الثابتة بين سلطات الدولة الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية. 
ولكن السؤال الجدير بالاهتمام هو كيف عاشت الأمة البريطانية دون دستور مكتوب ؟
 الدستور البريطاني تحول وتطور عبر السنوات ليس في كتاب مرجعي أو بنود مكتوبة يتم الرجوع إليها كلما استدعي الأمر ولكن الدستور بالنسبة لبريطانيا هو عبارة عن مجموعة من القوانين الإلزامية والمواثيق والمعاهدات والاتفاقيات وكذلك القرارات القضائية. 
الدستور البريطاني ملخص في ثماني كلمات انجليزية فقط : what the Queen in parliament enacts is law   فماذا تعني هذه الكلمات الثماني السحرية ؟ تعني أن البرلمان بمقتضى السلطة المخولة له من التاج (ممثلا في الملكة) يقوم بسن القوانين التي لا يمكن معارضتها. 
هذا بالطبع الي جانب مبادئ أساسية تشكل دستورا غير مكتوب : حكم القانون ومبدأ فصل الحكم الي أفرع ثلاثة تنفيذي وتشريعي وقضائي ومبدأ مركزية الدولة في سلطة البرلمان هذا القابع في وستمنستر في قلب العاصمة لندن والذي تخضع حتي مجرد ترتيب جلوس مقاعد الحكومة والمعارضة تقاليد ترجع لثمانية قرون وهي تقاليد مثيرة للاهتمام وربما نفرد لها مساحة في مقام آخر. 
لكن التقاليد ليست المهمة في العمل البرلماني بدرجة أهمية البرلمان وسلطاته. فالبرلمان يعبر عن سلطة الشعب والبرلمانيون يختارهم الناس عن وعي وثقة وتدقيق وتمحيص من خلال عملية انتخابية حرة . 
البرلمان البريطاني -مع ذلك- يخضع بالطبع للقوانين والمواثيق الدولية وخاصة في مجالات الحريات وحقوق الأنسان وهذا يعني بالضرورة ألا يتعارض ما يتم سنه من قوانين في برلمان وستمنستر مع تلك المواثيق. كما أن البرلمان اضطر للتخلي أيضاً عن سلطاته المطلقة تلك لدي انضمام بريطانيا الي الاتحاد الأوروبي عام ألف وتسعمئة اثنين وسبعين. وهذا يعني أن البرلمان البريطاني عليه أن يتبني القوانين الأوروبية ويطوع قرارته بما يتلاءم معها. 
وكيف هي الحال إذا حدث تعارض ؟ يلجأ الناس للمحكمة العليا لتغير القانون البريطاني. كما هو الحال في قضية شهيرة عرضت علي المحكمة العليا وكانت محل جدل ونقاش شارك فيه المجتمع بأسره . بطل القضية توني نيكلسون رجل من عامة الناس تطلب  يعاني من شلل رباعي وشلل في وظائف أعضاءه الداخلية منذ عام الفين وخمسة لكن "توني"  لا يرغب في الاستمرار في حياته بهذا النمط وفي نفس الوقت هو لا يقوي علي حقن نفسه بحقنة مميتة ولا يقوي علي السفر خارج بريطانية لدولة تبيح القتل الرحيم. القانون البريطاني لا يسمح بالقتل الرحيم وأي شخص يساعد "توني" علي إنهاء حياته بشكل ما يضع نفسه تحت طائلة القانون وعقوبة تصل الي السجن أربعة عشر عاما. خاضت الزوجة "سوزان ماك أرثر" معركة كبري في البرلمان والإعلام والمحكمة العليا من أجل تحقيق رغبة زوجها في أن ينهي حياته علي النحو الذي يرغب بكرامة. اشترك المجتمع باسره في الحوار فريق يدافع وفريق يرفض وثالث علي الحياد وقدم الإعلام فرصة للجميع كي يدلي برأيه ويدافع عن وجه نظره. 
في نهاية المطاف لم تغير المحكمة العليا القانون ولم تجبر البرلمان البريطاني علي اتباع القانون الأوروبي بشكل أعمي. قدرت المحكمة العليا أن عموم المجتمع البريطاني باخلاقياته وتقاليده المحافظة لا يتقبل بعد فكرة تقنين القتل الرحيم لكنها قررت منح إذنا خاصا لزوجة  توني نيكلسون وطبيبه في مساعدته علي إنهاء حياته بعد أن اقتنع القاضي بدوافعه وتقديرا لحالته. 
اعتقد أن لديكم قناعة راسخة الآن أن بريطانيا لا تحتاج الي دستور.