مشهدان لا تبرح وسائل الأعلام البريطانية أن تطرحهما مرة تلو الأخري هذه الأيام . وبقدر الألم الذي تستحضره الحادثتان يأتي معهما اليقين بأنه عندما يتعلق الأمر بحقوق الضحايا .. فان القضاء البريطاني يتمتع بذاكرة الأفيال.
المشهد الأول ترجع فصوله الي عام ألف وتسعمائة وتسعة وثمانين .. الي حادثة شهيرة عالميا فهي تظل أسوأ كارثة في ملاعب كرة القدم علي الإطلاق ولا يضاهيها في ذلك سوي مذبحة بورسعيد. حيث قُتل ستة وتسعون من مشجعي فريق ليفربول سحقا بالأقدام في ملاعب نادي شفيلد فيما يعرف إعلاميا بكارثة هيلسبرة.
خلصت تحقيقات الشرطة وقتها إلي أن عدد كبير من الضحايا - وبينهم أطفال - كانوا مخمورين كما أرجعت تضاعف عدد الضحايا الي ما يعرف بثقافة الهليجنيز بين المشجعين الأنجليز والتي تقارب بدروها أسلوب اولتراس الأهلي أو وايت نايتس الزمالك في الملاعب المصرية .
هذا الأسبوع أصدرت المحكمة العليا حكما بضرورة فتح التحقيق من جديد في القضية بناء علي تحريات النائب العام الذي وصل الي قناعة أن التحقيقات التي أجريت قبل ثلاثة وعشرين عاما - والتي خلُصت الي أن الأمر كان حادثا مأساويا - غير كافية وينقصها الكثير من العناصر التي يمك أن تحدد المسؤولية الجنائية عن وفاة هذا العدد الكبير من الضحايا في ظروف أقل ما يوصف أنها غير طبيعية. وألمحت وزير الداخلية "تريزا ماي" الي أن التحقيق سيطال أيضاً إتحاد الكرة الإنجليزي ومجلس بلدية شافيليد لسماحهما بإقامة المباراة في ملاعب نادي شافيليد - علي الرغم من أنها لا تمتلك شهادة تثبت صلاحية عناصر تأمين إقامة مثل هذه المباريات.
التحقيق الجديد سيطال بالطبع شرطة شافيليد والتي وُجهت اليها أصابع اتهام بتلفيق أدلة للضحايا والزعم بأنهم كانوا مخمورين وقت الحادث - حتي الاطفال منهم . ولذا سيجري التحقيق الجنائي بموازة تحقيق داخلي تجريه الشرطة لتحديد المسؤولين عن هذه المخالفات الجسيمة.
لم يكن الطريق سهلا واستغرق الأمر عملا شاقا ومضنيا من أسر الضحايا علي مدي ثلاثة وعشرين عاما من أجل تحقيق العدالة لذويهم الذين لاحقتهم سمعة المارقين المخمورين الخارجين عن النظام والقانون. لم يأبه أسر الضحايا بالتقارير الصحفية التي نهشت سمعة من يحبون ولا لتقارير الشرطة التي كان كل همها أن ترتب "تقريرا" يلوم الضحايا فقط لأن لا صوت لهم. فكانوا هم صوت قتلاهم.
لم يكتفوا بالصراخ والعويل والوقوف علي أبواب الحكومة يطلبون العدالة الضائعة بل بحثوا عن نائب في البرلمان تبني قضيتهم وتقدموا بعريضة جمعوا عشرات الآلاف من التوقيعات عليها لفتح التحقيق من جديد. ووقفوا هذا الأسبوع أمام مقر المحكمة العليا يحضنون بعضهم البعض ويهنئون أنفسهم علي ما حققوا. الأمر الآن في يد العدالة التي لن تخذلهم هذه المرة فقد علم الناس جميعا أن ليس بوسعهم أن يقتلوا هؤلاء الضحايا مرتين.
المشهد الثاني بطله مقدم برامج شهير في تلفزيون بي بي سي اسمه "چيمي ساڤل " طالما كان وجها معروفا ليس فقط في دوائر الأعلام ولكن كوجه اجتماعي شهير. عُرف بمساهماته السخية في كبريات الجمعيات الخيرية خاصة تلك التي تعني بالاطفال. لم يكن "ساڤل" إعلاميا عاديا ولكن كان ملء السمع والبصر واستحق عن مساهماته المجتمعية لقب سير. وتوفي أوائل العام الماضي. بدأ الأمر ببرنامج استقصائي تلفزيوني علي شبكة آي تي ڤي يقول إن "ساڤل" ذي الضاحك المرح المحبوب كان له وجها آخر .. مخيف مرعب وشيطاني ..تحدث البرنامج الي عدد من النسوة قلن إنهن تعرضن لاعتداءات جنسية من الرجل عندما كن بعد فتيات مراهقات ولم يكن بوسعهن الإبلاغ عنه إما لخوفهن من سلطاته أو لأنهن كن صغيرات غريرات لم يدركن ما يحدث. وكأن النسوة الثلاث فتحن علبة مليئة بالديدان... توالت البلاغات عن حالات اعتداءات جنسية كثيرة ارتكبها "ساڤل" بمفرده أوبرفقة آخرين من المشاهير والإعلاميين وتواطيء الجميع علي الصمت خوفا ورهبة منه.
لم يقف الأمر عند هذا الحد. فقد أثيرت قضية أكبر حيث بدأت أصابع الاتهام تشير الي مديرين وصحفيين ذوي حيثية في بي بي سي بأنهم حاولوا التستر عليه ومنع إذاعة برنامج يتحدث عن نفس الاتهامات قبل عام. تدحرجت رؤوس كثيرة وتوالت الاستقالات والوقف عن العمل من العديدين داخل المؤسسة الإعلامية العريقة وعلي رأسها استقالة مديرها العام جورج انتوسل بعد خمسة وخمسين يوما فقط في منصبه.
وما زالت الموجات التي اثارها الحجر الذي اُلقي في البركة الراكدة تتسع. أجرت بي بي سي تحقيقا مستقلا برأ العديدين من المديرين من تهمة التستر علي "ساڤل" لكنه وجه تأنيبا قاسيا لهم بالقصور في الكشف عن علبة الديدان التي كانت تمرح بينهم دون أن يكشفها أحد.
التحقيق الجنائي طال العديدين ممن عاصروا "چيمي ساڤل" من معدين ومخرجين علي جرائم ارتكبوها قبل نحو ثلاثين عاما سواء بالاشتراك معه أو التستر عليه. أما هو وقد وري الثري فلم تجد عائلته من اعتذار تقدمه لضحايا سوي أن تزيل شاهد قبره أما الحكومة البريطانية فتبحث في أمكانية تغيير القانون الذي لا يتيح نزع الألقاب عمن ماتوا حتي يمكن تجريده من لقب "سير".
حقاً ... إن الله لينصر الأمة العادلة حتي وإن كانت كافرة ولا ينصر الأمة الظالمة حتي إن كانت مسلمة.