حكايات الأسوانية … الحقيقة والخيال في "مذبحة الهلايلة والدابودية"
كان اكتشافا مذهلا ذلك الذي عايشته خلال الفترة الماضية.. لم أعرف أن شعور الأنسان بالألم على شئ يحبه ويعشقه يجعل من الصعب جدا عليه أن يكتب عنه. هذا ما حدث لي عندما قرأت وسمعت وشاهدت المشاهد البشعة التي دارت أحداثها في أسوان …حاولت مرارا دون جدوي أن أكتب عما حدث حتي مجرد بوست على فيسبوك أو مائة وأربعين حرفا على توتير. لم استطع .. شئ ما بداخلي كان يرفض الاعتراف بأن هذا يحدث في الحقيقة كنت أشعر أن جزءا من براءة أيام طفولتي تنمحي بكل قسوة مع كل صورة ومع كل خبر يتحدث عن "مذبحة أسوان".
الكثير من الأصدقاء والأقارب والجيران لجأوا إلي كي أقدم لهم تفسيرا لما يحدث .. لكنهم عادوا خائبين فلم يكن لدي إجابة ولم يكن عندي تفسير لماذا تحولت مدينتي إلي ما يشبه ساحة الحرب لماذا أصبحت الجثث تارة ملقاة في الشوارع وأخري محمولة على عربات الكارو لماذا كل هذا الدم وهذا العنف في أسوان التي يعشقها كل من يأتي إليها ويشيد بطيبة أهلها؟
ذهبت إلي أسوان ولم يكن في نيتي إجراء تحقيق صحفي لأنني متأكدة أنني سأنظر إلي موطني بشكل مختلف كنت أبحث عن الحقيقة في عيون أبناءها. قررت أن اترك جانبا كل ما قيل في الإعلام وما قيل على شبكات التواصل الإجتماعي لأن الكثير منها قيل من منطق النفخ في النيران من أجل أن "يبيع الخبر أكثر". على سبيل المثال قالت لي جارتي إنها سمعت في أحد البرامج التلفزيونية إن القتلي وصل عددهم "خمسين ألفا" فسألتها هي أسوان فيها كام ألف؟ ووصفت أحداهن على توتير ما يحدث بحرب داحس والغبراء ! وأصر الكثيرون من النشطاء على فيسبوك وتوتير أن النوبيين مقهورون ومغلوبون في الصراع. فيما دلل أنصار الصعايدة على أنهم المغلوبون في الصراع بدليل أن عدد الضحايا بينهم هو الأكبر.
قررت أن أنحي كل ذلك جانبا وأنزل الشارع لأحدث للبشر كي أعرف الحقيقة لا الخرافة كلام الناس الحقيقيين بدلا من الجالسين في المكاتب المكيفة وفي مقاهي الانترنت. أجمعت آراء كل من ألتقيت بهم دون استثناء سواء من الصعايدة من الهلايلة أو النوبة من الدابودية على أن الخلاف بدأ بكلام طائش مسئ للجانبين كتب على جدران مدرستين متقابلتين ينعت بأوصاف بذيئة أبناء القبلتين. وأكد لي عم عبد الله النوبي ولديه خبرة في الخطوط أن الذي كتب العبارات من الجانبين "شخص واحد"وأن ذلك واضحا جليا من طريقته في كتابة الياء والألف. وأجمع الكل أيضا على أن العداء بين الجانبين مستعر منذ عام وسخر الجميع من مقولة أن الأخوان هم السبب فيما حدث. وأشار معظم من ألتقيت بهم إلي تقاعس أمني كبير في وقف شرارة النار حين اشتعلت كما تحدث البعض كيف أن السلطات قصدت " تأديب " الطرفين بعدم التدخل فيما تحجج بعض المسؤولين بإن التدخل الفوري دون دعم كان يمكن أن يقود إلي مذبحة لقوات الأمن التي كانت غير مجهزة.
قال لي معظم من ألتقيت بهم - بمن فيهم الصعايدة- إن جماعة من الهلايلة ممن احترفوا الاجرام وتجارة المخدرات اعتادوا الاستقواء على الدابودية وعلى غيرهم وأنهم قتلوا بعضا من النائمين غدرا من النوبيين ومن بينهم سيدة نوبية وقاموا بنهب وسلب المنازل ومن يعرف طباع الصعايدة مثلي يدرك أنهم على كل مساوئ عادة الثأر التي مازالت موجودة لديهم لا يمكن أن يقتلوا نائما كما أن قتل النساء ثأرا يعد من المحرمات تقريبا في أعراف الصعيد. ولا يمكن أن يُقتل رجل عليه ثأر وبصحبته امرأة سواء كانت زوجته أو أمه أو شقيقته فهذا عار على من يرتكبه.
هذه الحادثة كانت محورية في تأجيج ما كان يمكن أن يعد حادثا بسيطا. وجعل أهل النوبة يتكاتفون سويا مع الدابودية ويشنوا هجوما مضادا قتل فيه ما يصل إلي خمسين من الهلايلة. لم يسكت الهلايلة على ذلك وإنما ردوا بالثأر بقتل طبيب نوبي مشهود له بالخلق في محل عمله بصورة بشعة وتقطيع أوصاله. ومن يعرف عادات الثأر في الصعيد يعرف أن القبائل - مع الأسف الشديد- لا تعتمد مبدأ من قتل يقتل لكنهم ينتقون أفضل من في القبيلة الأخري كي يقتلوه ثأرا.
على الطريق من كوم أمبو لأسوان فوجئت بشخص نوبي بملابس مدنية يقف بالقرب من أحدي نقاط التفتيش رافعا بندقية متأهبا وبعد ذلك بأيام كنت على الطريق من كوم أمبو لإدفو دخلت محل للموبايل لشراء كارت تلفون وفوجئت برجل يرتدي جلبابا رافعا سلاحه. مثل هذه المشاهد التي لم اعتد عليها ولم اراها في سنوات عمري التي قضيتها في أسوان أكدت لي بالدليل القاطع ما أجمع عليه الكل أن سلاحا كثيرا يغرق البلد مصدره ليبيا وأن قطعة السلاح التي كانت بعشرة ألاف جنيه أصبح سعرها اليوم ألفين من الجنيهات. وكل ذلك أغري الجميع بالتسابق على شراء السلاح خاصة في ظل انعدام الأمن. الجميع يعرف أن الكبار من رجال الصعيد يقتنون في العادة سلاحا حفظا للهيبة لكن المؤكد أن وجود السلاح اليوم بشكل كبير في يد المتهورين من صغار السن ساهم في تفاقم المشكلة. هذا إلي جانب الكثير من المشكلات التي يعاني منها الصعيد أصلا من ارتفاع كبير للبطالة وسيطرة الجماعات المتطرفة على المشهد الاجتماعي وتغذية النعرات الطائفية.
كانت هناك حكاية وراء الحكاية ربما لم يعرفها الجالسون إلي أجهزة الكمبيوتر والسمارت فون علي شبكات التواصل الإجتماعي ولم يهتم بها الأعلاميون الذين كان كل همهم أن يضيفوا البهارات والأثارة لقصصهم ..ألا وهي الأثر الشرير نعم الشرير الذي أحدثته هذه الأزمة بأقوات الناس في أسوان التي تعتمد بشكل رئيسي على السياحة سواء الداخلية والخارجية. وبالطبع أضرت هذه الاخبار بالسياحة بشكل مهول في موسم من أهم المواسم السياحية . أنا من أشد المنحازين إلي طرح الحقائق كما هي لكنني في نفس الوقت ضد المبالغة والأثارة المبالغ فيها لتحقيق مكاسب وقتية وانتصارات وهمية.
كان يمكن أن يكون هذا الموسم السياحي أفضل من سابقيه بقليل كان يمكن تطويق مستصغر الشرر الذي تحول إلي نيران تأكل الأخضر واليابس بقليل من الحكمة والسرعة في التعامل الأمني. كان يمكن للإعلام المصري أن يتعامل بقدر من المسؤولية بدلا من تحويل مشكلة يمكن أن تحدث في أي بلد وأو نجع من نجوع مصر دون أن تتحول إلي "مذبحة" و"حرب داحس والغبراء". كان يمكن للناشطين في مجال حقوق النوبة -التي انحاز إليها علي طول الخط- ألا ينفخوا في النيران وألا يستغلوا هذا التوقيت لطرح قضايا عالقة من سنين لكن لا علاقة لها اساسا بما حدث مثل المطالبة بالتعويضات وحق احترام الخصوصية واللغة. كان يمكن لكل من شمر عن ساعديه للمشاركة في حرب الأثارة المؤسفة بهاشتاج مذبحة أسوان اعلى توتير أو بوست على فيسبوك أن يتروا قليلا ويعرفوا الحقائق كما هي. كان يمكن لكل هؤلاء أن يتحلوا بقدر من الحكمة ليعرفوا أن الجميع من أهل النوبة والصعيد على حد سواء سيخسرون في النهاية ويدفعوا ثمنا باهظا من أقواتهم وأرزاق أطفالهم ثمنا لهذه الحروب الوهمية علي شاشات التلفزيون وشبكات الانترنت.
في رحاب معبد فيله الراقد في بهاء وروعة في أحضان النيل من آلاف السنين .. جلست أنا وأسرتي الصغيرة واحدة من ثمانية أشخاص لا غير نستمتع بالاستماع إلي رواية أزوريس الخالدة في عرض الصوت والضوء. جو أسطوري تحت سماء صافية وفي جو رائع وراقي لا تعرفه أغني بلاد العالم . لا أخفي عليكم شعرت بالحسرة تعصر قلبي الجواني علي التراب الأسواني وجدتني أسأل .. أسوان تبيع أجمل ما في الكون فمن يشتري ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق