الرئيس
لابد أن اعترف أن عملي في الأخبار كثيرا ما يثقل كاهلي بما لا أطيق تحمله من وطأة ما يحمل من مفارقات مبكية مضحكة تسبب الكثير من الألم والممزوج بالسخرية المريرة. واعترف أيضا أنني علي الرغم من أنني عاهدت نفسي على أن اقنع بدور "الإعلامي الطبيب" أي ذلك الإعلامي الذي يقوم بتشخيص المريض ويشير عليه بالعلاج .. إلا أنني لا أملك نفسي أحيانا سوي أن أكون في صفوف أهل المريض وابدأ في الصراخ والعويل على المريض وعلى ما أصابه. ويتكرر هذا الانفعال وتلك الولولة تحت وطأة تطورات الأحداث في العالم العربي الذي أنظر إليه بعين متقاربة لأن الهم واحد والمرض واحد.
في أسبوع واحد كان شخص "الرئيس" وما خلفه من حكايات هو "البطل" أو المريض إن شئت ولا أقصد بذلك الكلمة بحرفيتها. إنما قصدت العلة والداء في عالمنا العربي ككل على أختلاف ظروفها السياسية.
واسمحوا لي أن اتخلي قليلا عن المنطق وابدأ في الشكوي والولولة. فهناك من الأمراض ما لا يفلح معاها أسلوب "الطبيب" ذي القفازات البيضاء والنظارات الطبية والأعصاب الباردة.
فما المنطق في أن يختار بلد عربي هو الجزائر "رئيسا" يجلس على كرسي متحرك ؟ ما المنطق في أن يكون رئيس دولة عربية هي الأكبر من حيث المساحة وتعداد سكانها يصل إلي أربعين مليون شخص تعجز عن أن تجلب إلي ساحتها السياسية وجها جديدا شابا ؟؟ كيف يمكن لشعب ثلثا أبناءه ممن هم تحت سن الخامسة والثلاثين وثمانون في المائة من أبناءه تحت سن الخامسة والأربعين أن يختار رجلا مثل عبد العزيز بو تفليقه رئيسا ولفترة رابعة؟
كيف يكون بلد علّم العالم الثورة وكسر شوكة الاحتلال الفرنسي اشرس احتلال عرفته كتب التاريخ أن يقف صامتا أمام مشهد رجل أقعده المرض لدرجة أنه أصبح مغيبا عن العالم أسابيع طويلة وهو يرشح نفسه رئيسا ويفوز؟ ألم يشاهد هؤلاء الرئيس الامريكي علي شاشات التلفزيون وهو يتريض أو رئيس الوزراء البريطاني وهو يجري ويلعب مع أطفاله ؟
أما المفارقة الثانية فكانت في مصر قلب العالم العربي وأهم دولة فيه - التي فتحت أبواب الترشيح لانتخابات رئاسية يعلم الجميع نتيجتها سلفا. الكل يعلم أن المشير السيسي سيكون الرئيس القادم لكنهم أختاروا ـ بمن فيهم حمدين صباحي منافسه الأوحد ـ أن يستمروا في هذه المسرحية الهزلية. انخرط الجميع في سباق محموم لأبداء فروض الولاء والطاعة لمن لم يطلبها أصلا. وانهمك الأعلام تارة في الانبطاح المشين لشخص السيسي لدرجة القول إن الرجل لا يحتاج إلي برنامج انتخابي أو الاستمرار في بث اخبار منافسه صباحي عن ثقته الكاملة في الفوز بسباق يعلمون علم اليقين أن صفارة النهاية فيه انطلقت قبل أن يبدأ.
لم يقف أحد لمحاولة لجم هذا السعار وهذا الجنون بكلمة.. أصر الجميع على أن من يرفض السيسي فهو يرفض لمصر. تماما كما زعم الاخوان ومن ورائهم أن من يخالفهم يخالف الاسلام ويحارب الله. لم يتوقف عاقل ليسأل أسئلة أقل ما يقال عنها أنها بديهية. ما هو المشروع الذي جاء به السيسي ؟ كيف سيصلح اقتصاد مصر المنهار كيف سيحل مشكلة البطالة كيف سيتعامل مع العالم الخارجي والسياسة الخارجية لمصر في حالة من التدهور الشديد ؟ لم يقدم السيسي حتي الساعة برنامجا انتخابيا لاننا قررنا أن نعفيه من ذلك فقولوا لي بالله عليكم على أي أساس سوف نحاسبه؟
أما المفارقة الثالثة فكانت المهزلة في البرلمان اللبناني لاختيار خليفه لميشال سليمان. لبنان هذا البلد الذي كان منارة للعلوم والثقافة والاعلام في العالم العربي كله .. لبنان الذي كان أول بلد عربي يعرف التعددية السياسية. رضي ممثلو شعبه أن يمثلوا في الحقيقة تمثيلا دراميا لا تمثيلا برلمانيا. جلسوا الي مقاعدهم في جلسة برلمانية مهيبة الكل يعرف نتيجتها سلفا. وضعوا أوراقا بيضاء من غير سوء بدلا من أن يتحلوا بالشجاعة وينخرطوا في حوار وطني جاد من أجل بلد أصبح علي شفير هاوية متخم بالمشكلات الاقتصادية والبطالة وبمشكلة اللاجئين السوريين التي تكاد تغرق البلد في كارثة بسبب ضآلة موارده الاقتصادية وهشاشة مرافقه وبنيته التحتية. اختار نواب البرلمان اللبناني الافاضل المصالح الشخصية علي حساب الوطن والطائفية عوضا عن المصالحة اختروا أن يكونوا مجرد مقاعد وأوراق بيضاء حرفيا.
أما كارثة الكوارث فسوريا التي يخرج علينا من أن لاخر رئيس برلمانها الكارتوني باشعار وهمي بشخصية خيالية تعلن ترشحها للانتخابات الرئاسية. ولا يعرف أحد من أي اتوا هؤلاء وأين سيذهبون لكن الجميع يعلم بكل تأكيد من أتي بهم هذا الذي اشبعهم قتلا وتقتيلا على مدي ثلاث سنوات. هذا البشار الذي سيدخل التاريخ علي كل جرائمه وجرمه من أبواب جهنم. ومن وراءه معارضة هزيلة اختارت أن تبيع الوطن في مقابل حفنة دولارات ودراهم.
الحقيقة أن المسرحية علي ساحة العالم العربي تراجيدية اكثر من احتمالي واحتمال الكثيرين. الكل فيها ممثلون فاشلون. لقد اختصرنا حياتنا ومشكلاتنا وهمومنا في شخص "الرئيس" هذا المفهوم الذي لم يعد موجودا في أي من ديمقراطيات العالم. لا يتحدث العالم لا في الغرب ولا حتي في الشرق عن الرئيس يتحدث الناس عن الاحزاب السياسية عن المشاريع الاقتصادية عن بناء المجتمعات عن التعليم عن البناء ..لا عن كرسي بوتفليقه المتحرك ودراجة السيسي والرئيس الكارتون ورئيس الاوراق البيضاء. تعلم العالم فمتي نتعلم ؟