توني بن …أخر الرجال المحترمين
ربما لو ذكر اسم "توني بن" للبعض في العالم العربي يظنون أنك تقصد "توني بلير" رئيس الوزراء الاسبق وأنك أخطأت في اللفظ أو الكتابة. وقد يكون لهم بعض العذر في ذلك وقد يكون من سخريات القدر أن يتشارك توني بن وتوني بلير في الاسم الاول ويتشابه اسميهما الثاني. وشتان ما بين الاول والاخير. ومن المؤسف فعلا الا يعلم الناس في العالم العربي الكثير عن هذا الرجل العظيم الذي يعد بحق مثالا للسياسي المحترم إذا جاز في أي حال أن نصبغ صفة الاحترام علي العمل السياسي.
قبل سنوات طويلة تم تكليفي بتغظية أعمال المؤتمر الانتخابي لحزب العمال المعارض.. كانت هذه طريقة مكان العمل في تقديم العاملين الجدد للانخراط في الحياة البريطانية ومتابعة الاصول والقواعد الانتخابية في البلد..وقد احسنوا صنعا. كان من المهم - كجزء من التغطية الاخبارية - أن استمع إلي جانب الحلقات النقاشية التي تتناول القضايا العربية واسعدني الحظ بحضور احداها وكان "توني بن" هذا السياسي اليساري المخضرم حاضرا ومحاضرا فيها. بعد حلقة النقاش تقدمت إليه بجرأة ساذجة وطلبت منه إجراء حوار معه بعد أن قدمت إليه نفسي وصفتي ومكان عملي فوافق دون تردد. بدا لي دمثا ودودا متواضعا وعالما بكل ما يدور في العالم العربي وقتها. اخجل الأن أن أقول أنني لم اكن قبل هذا اللقاء قد سمعت بالرجل. ولي بعض العذر تماما كما لقراء هذه السطور كل العذر في ألا يعرفوا قدر هذا الرجل العظيم الذي غيبه الموت منذ أيام .
حينما عدت إلي مكان عملي وافصحت لمديري عن "المقابلة الاولي" التي أجريها في المكان ومع من كانت قال لي مندهشا وضاحكا "توني بن مرة واحدة يعني أول ما تشطحي تنطحي؟" كان من الواضح أنني حققت مقابلة جيدة وإن لم تكن نادرة فالرجل كان يحب الاعلام والكلام وكان خطيبا مفوها ويكفي أن يعلم قارئ هذه السطور أن هذا السياسي المخضرم الذي بقي تحت قبة مجلس العموم البريطاني خمسين عاما كاملة كتب مذكراته في ثمانية مجلدات نعم ثمانية مجلدات !! كما أنه ضمن خطبه في مجلدين حققا مبيعات قياسية.
كان الرجل فخورا بولعه بالكلام والخطب السياسية والمقالات والمقابلات وكان يمازح الاعلاميين قائلا: :عندما اقابل الرب ساتقدم اليه بخطبة مؤلفة من خمسة عشر مليون كلمة ثم اسأله مارأيك فيما قلت ؟" وبقي يحب الكلام حتي أنه تحدث للناس حتي بعد موته فلم ينس توني بن أن يسجل رسالة صوتية لمدة دقيقة وأوصي أن تذاع بعد وفاته… وجه فيها الشكر لوالديه واولاده واحفاده واختص زوجته "كارولين" بشكر منفرد قائلا إنها رفيقة مشوار عمره على مدي خمسين عاما واختتم بالقول إنه يرجو إلا يكون قد سبب احراجا أو أذي لاي شخص لان من يشتغل بالسياسة عليه أن يكون صريحا وجارحا أحيانا. ولم ينس أن يمازح الناس بالقول إنه سيشاهد الرسالة من العالم الآخر.
هذه الدقيقة التي تركها "توني بن" إرثا ربما لخصت حياته ومشواره وطريقته الخاصة اللاذعة ومزاحه الذي يتميز بنكهة إنجليزية خالصة.
فتوني بن لم ينس أن يشكر عائلته الارستقراطية التي سبب لها خيبة أمل برفضه أن يحمل أيا من ألقابها المتوارثة وبرفضه أن يدخل مجلس اللوردات المخصص للطبقات الراقية في بريطانيا وفضل عوضا عن ذلك خوض غمار السياسة وأن يصبح نائبا منتخبا في البرلمان وعلي مدي خمسة عقود.
ولم ينسن أن يشكر زوجته التي قال عنها في رقة وعذوبة : "اشعر أمامها بقلة الحيلة فأنا اعتمد عليها في كل شيء من التعليقات الذكية والصخب العقلاني الذي تثيره عندما نتناقش في خطبي وكتاباتي ومرورا بملابسي التي تقوم بشراءها وشعري الذي تقصه بنفسها وتتأكد أن مظهري لائق ومحترم قبل أن أخرج من باب البيت ومع ذلك تبدو كارولين نفسها جميلة الهندام ورائعة الطلة"
لم ينس "توني بن" أن يقدم اعتذارا لاي شخص تسبب له في أذي فالرجل الذي دخل البرلمان وهو شاب لم يتجاوز الخامسة والعشرين لم يعرف المجاملة ولا المواربة يوما في مجال السياسة الذي يعد فيه الكذب والنفاق عملة رائجة جدا.
لم يقل "توني بن" يوما ما لم يفعل ولم يفعل سوي ما يقول. فعندما أختار اليسار والاشتراكية والانحياز للفقراء لم يدخل مجلس اللوردات الذي كان يستحقه بالوراثة ولم يتنمي لحزب المحافظين الذي يناسب بالضرورة عائلته ومكانته الاجتماعية. أنما دخل مجلس العموم بالانتخاب المستحق ليصبح نائبا لامعا وزيرا وزعيما للكتلة الانتخابية لحزب العمال.
لم يكن "توني بن" كذلك مجرد "بوق يساري" من أصحاب الكلام الرنان الاجوف بل كان صاحب مبدأ وموقف.. وكان الكثيرون من الساسة اللامعين وعلي رأسهم مارجريت ثاتشر وتوني بلير يحسبون له ألف حساب. وعندما بغت وطغت ثاتشر السيدة الحديدية كان لها بالمرصاد. وفي حربها الشهيرة مع عمال المناجم الذين أضربوا عن العمل عامين كاملين وقف في وجهها ووقف في صفهم .
وحين قرر "توني بلير" خوض الحرب علي العراق وقف له بالمرصاد وسيذكر التاريخ على الدوام الخطاب الشهير الذي ألقاه في مجلس العموم الذي أدان فيه توني بلير زعيم حزب العمال الحاكم حيث اتهمه صراحة بالانقلاب على مبادئ حزب العمال وبالتواطئ مع اليمين الأمريكي متمثلا في الرئيس السابق جورج بوش الابن وديك تشيني للاطاحة بنظام صدام حسين بدون وجه حق واشعال حرب لا يعرف أحد مداها.
وحينما انتصر توني بلير بالاعيبه واقنع ببراهين كاذبة البرلمان بأن صدام حسين لديه أسلحة للدمار الشامل وحصل على ما يريد من تأييد البرلمان للحرب على العراق. نزل "توني بن" مثل أي مواطن بريطاني محترم الشارع وشارك الالاف في تظاهرات "أوقفوا الحرب" التي كانت تخرج كل أسبوع احتجاجا علي الحرب الوشيكة علي العراق. هذه المظاهرات التي كانت تزداد قوة كل يوم سبت من كل اسبوع. إلي أن وصل عدد من شاركوا في هذا الطقس الاسبوعي في الاسبوع الاخير قبل الحرب علي العراق الي رقم لم تشهده بريطانيا في تاريخها الحديث …اربعة ملايين من البريطانيين يصرخون جميعا في قلب لندن يصرخ "لا للحرب". وانذر "توني بن" نفسه لقضية نزع السلاح النووي وكان من أكثر المؤيدين لنزع السلاح من طرف واحد وهو الامل الذي لم يتحقق ابدا.
بقي توني بن السياسي المخضرم في قلب القضايا التي تهم بلده التي كان يري أنها يجب أن تبقي ضمير العالم لما لها من ارث ثقافي وتاريخي لكن عينه كانت علي القضايا الدولية وكان من اشد المعادين للسياسات الاستطانية الاسرائيلية ولحائط العزل وبقي مدافعا مخلصا عن القضية الفلسطينية التي كان يؤمن بأن محنة شعبها تسببت فيها السياسة البريطانية وبقي دوما يذكر بالفخر كيف أن برلمان ويستمنستر الذي كان عضوا فيه وقتها أوقف جنون الحكومة البريطانية إبان العدوان الثلاثي علي مصر عام ستة وخمسين. ويؤمن أن النزاهة السياسية هي الطريق الوحيد لمستقبل أفضل لبريطانيا وصورتها أمام العالم.
ظل "توني بن" مخلصا لمبادئه وتقاليده الاشتراكية يسير في الشارع كما يسير العامة ويخاطب الناس ويركب معهم المترو يمازحهم بنكاته اللاذعة ولم يعزل نفسه يوما عن الذين انتخبوه نائبا عنهم علي مدي خمسين عاما كاملة وعندما تقاعد عن العمل البرلماني عام ألفين وواحد قال بسخرية " أريد أن اتفرغ قليلا للسياسة".
كان مارقا لاذعا ساخرا صاخبا … كان آخر الرجال المحترمين