Translate

الجمعة، 27 ديسمبر 2013

اللورد ليڤيسون والصغيرة ميلي ...لماذا أنهي ميثاق ملكي ثلاثمائة عام من حرية الصحافة البريطانية

في سرية تامة تقارب تلك التي تحيط بالأسرار النووية وخلف الأسوار العالية والأبواب المغلقة في قصر باكنغهام اجتمع خمسة من كبار وزراء الحكومة البريطانية لتوقيع "ميثاق ملكي" لتنظيم عمل الصحافة وذلك للمرة الأولي منذ 300 عام.. نعم صحيح ما قرأتم فالمرة الأولي منذ عام 1695 تعرف صاحبة الجلالة الصحافة البريطانية قانونا يحاسبها ويراقبها ويعاقبها .. في بادرة نادرة تحالف زعماء أكبر ثلاثة أحزاب على الساحة السياسية - حزب المحافظين ممثلا في رئيس الوزراء ديفيد كاميرون وشريكه في الائتلاف الحكومي نيك كليغ وغريمهما زعيم حزب العمال إد ميليباند - تحالف الجميع ومعهم رأس الدولة الملكة إليزاليث وقرروا أن الوقت قد حان لوضع "رقابة ما على السلطة الرابعة".
لم تكن المعركة سهلة ومازالت رحاها تدور في أروقة المحاكم حتى الساعة. فلم يكن بالإمكان أن يستسلم أباطرة الصحافة البريطانية الذين يفاخرون بحريتهم وتقاليدهم العريقة بسهولة بوضع سيف على رقابهم. وحتي اللحظات الأخيرة من دخول نائب رئيس الوزراء نيك كليغ ومعه الوزراء الأربعة لمقابلة الملكة كان أصحاب الصحف ومالكيها يحاولون وقف التوقيع على" الميثاق الملكي" عن طريق القضاء لكنهم فشلوا. قضي الأمر ووافق البرلمان على معاقبة الصحف التي لا تشارك في النظام الجديد من خلال دفع تعويضات استثنائية تصل إلي مليون جنيه استرليني.
لكن الجدل مازال قائما وأباطرة الصحافة لم يرفعوا الراية البيضاء. هاجموا بشراسة في كل ما تحت أيديهم من صحف وأوراق وبرامج تلفزيونية وإذاعية الميثاق الملكي والهيئة الرقابية الجديدة حتي قبل أن تري النور. فكيف يقبل من تمتع بالحريات ثلاثة قرون بجهاز رقابي يملي عليهم أرادة فيما يتناولون ويقولون. وتحالفت معهم الجمعيات المدافعة عن حرية التعبير وهاجمت الميثاق والهيئة الرقابية. وأدانت جمعية الصحافة البريطانية هذه الهيئة التي تتمتع بنفوذ واسع القرار وقالت إن التنظيم الجديد سيضع عبئا يشل عمل الف ومائة صحيفة تمثلها الجمعية.

 
اللافت للنظر أن حتي الانتساب إلي هذه الهيئة الرقابية يبقي اختياريا. لكن الصحف التي ترفض الانضواء تحت لوائها ستعرض نفسها لدفع تعويضات كبيرة عن الأضرار إذا ما تعرضت لملاحقات قضائية. ويؤكد الزعماء السياسيون أن الهيئة الجديدة ستحول دون حدوث مخالفات وأنها جاءت تجسيدا لإرادة تحقيق قضائي مستقل قام به اللورد ليفيسون وقدمه خلاصة تحقيقاته التي تمتعت بصلاحيات لا حدود لها في تقرير وصل إلى ألفي صفحة بالتمام والكمال..
فما هي حكاية لورد ليڤيسون وماهي حكاية تقريره الذي سيرسم مستقبل الإعلام البريطاني في السنوات القادمة ؟
بدأت الحكاية بهاتف نقال .... نعم هاتف نقال ترجع ملكيته لفتاة مراهقة.
تقرير صحفي كشف قيام بعض المحررين في صحيفة "نيوز أوف ذا ورلد" الأسبوعي ذائعة الصيت بالتلاعب بالهاتف النقال لفتاة تدعي "ميلي دولر" وقاموا بمسح رسائل مسجلة عليه .. كانت "ميلي " قد اختفت من منزلها وقيام المحررين (بمساعدة بعض عمال الأمن في شركة الهاتف) بمسح الرسائل أعطي أملا زائفا لأهلها وللشرطة في أنها مازالت علي قيد الحياة وفي الحقيقة أنها قُتلت بعد وقت قصير جدا من أختفاءها وتم العثور علي جثتها بعد ذلك بشهور.
كان هذا أول خيط كشفته عنه صحيفة "الغارديان" في يونيو عام 2011 توالت بعده الاحداث ولم تتوقف حتي الساعة ".
تتابعت خيوط "المؤامرة " لتغزل وتنسج بيتا مثل بيت العنكبوت أسود .. قاتم .. مخزي .. وقاتل…  
قائمة الضحايا التي بدأت باسم فتاة اسمها "ميلي" اتسعت وتوسعت لتضم الممثلة الشهيرة انجلينا جولي وبراد بيت واريكسون المدير السابق لمنتخب انجلترا ووين روني نجم فريق مانشستر يوناتيد ووالد اللاعب الشهير ديفيد بكهام وأحد أعضاء العائلة المالكة الذي لم يذكر اسمه لاسباب قضائية بسبب صغر سنه وغيرهم
كثيرين .
الكشف عن تنصت محرري "نيوز أوف ذا ورلد" علي هاتف الفتاة "ميلي دولر" التي تم العثور علي جثتها قتيلة عام 2002 أدي بعد أسابيع قليلة من تكشف الفضيحة إلي إغلاق الصحيفة الشهيرة "نيوز أوف ذا ورلد " بعد مرور 168 عاما علي صدورها .
لم يكن حدثا عاديا او عرضيا أن تُغلق صحيفة بريطانية ذائعة الصيت أبوابها بعد مرور 168 عاما عليها . لم يحتاج الأمر لحصار مقر الجريدة ... لم يخرج أحد عليهم بالسيوف والجنازير وقنابل المولوتوف . لم تغلق الصحيفة أبوابها بأمر قضائي ولا بأمر من رئيس الحكومة ولا بأمر من جلالتها ....ولكنها توارت خزيا وخجلا من أن بعضا من محرريها تلصصوا علي هاتف نقال لمراهقة من عامة الشعب.
إخلال مخزى بالمهنية والمصداقية قامت علي إثره الشركات المعلنة بسحب تعاقدها مع الصحيفة وطالب بعده السياسيون بضرورة التحقيق في قضية التلصص وأخلاقيات الإعلام .
ظلت النيران التي اشتعلت بعود ثقاب تأكل في طريقها الأخضر واليابس في أمبراطورية الملياردير الأسترالي الشهير روبرت مردوخ. لتطال في نهاية المطاف ربيبته وابنته الأثيرة "ربيكا بروكس" التي أجبرها "الخزي " علي الاستقالة بصفتها مسؤولة التحرير في الصحيفة. وقدم مردوخ لأهل "ميلي" مليونين من الجنيهات الاسترلينية تعويضا لهما عن الألم الذي تسبب فيه محرروه بالاعتقاد خطأ أن ابنتهما مازالت علي قيد الحياة. خرج مردوخ نفسه ليعلن آسفه واعتذاره لوالدي "ميلي" ولأي شخص تألم أو تضرر من التجسس الذي ارتكبه الصحفيون الذين يعملوا لديه. ونُشرت اعتذارات مدفوعة الأجر في جميع الصحف ودفع مردوخ مجددا ملايين الجنيهات لقاء تسويات مع الضحايا حتي لا يقاضونه.
لكن ذلك لم يكف ف "ربيكا بروكس" كانت أيضا صديقة مقربة لرئيس الوزراء ديفيد كاميرون وقيل أنهما في مرحلة ما من تاريخ علاقتهما الوثيقة تبادلا ما يزيد علي ثلاثين رسالة نصية في يوم واحد علي هواتفهما.
وليس ذلك فحسب لكن "أندي كولسون" الذي كان مستشارا إعلاميا ل "كاميرون" وقت كشف الفضيحة كان يعمل مديرا للتحرير في الصحيفة المنكوبة..
فهل غض "كاميرون" الطرف علي ما يحدث في امبراطورية مردوخ من فساد وإفساد لحياة العامة من الناس في مقابل تأييد الصحف التي يديرها مردوخ -وهي كُثر- لحزب المحافظين وزعيمهم "كاميرون" هل كان هذا هو ثمن الدخول إلى عشرة داوننغ ستريت ؟
أسئلة صعبة بدأت تغلي في أروقة البرلمان في ويستمنستر ويزداد موقف رئيس الوزراء حرجا كل يوم. لم يتجاهل كاميرون ما يحدث حوله ويتصرف كأن شيئا لم يكن.
ولم يكن بوسعه في النهاية سوى أن يخضع للضغوط ليبرأ ساحته. أُجبر كاميرون علي أن يكلف اللورد "بريان ليڤيسون" وهو قاض رفيع المستوي بإجراء استجواب مهني واسع النطاق بالتوازي مع التحقيقات الجنائية.
كان علي لورد ليڤيسون أن يجري تحقيقا في ثقافة وممارسات وأخلاقيات الإعلام وأن يبحث تحديدا في العلاقة بين الصحافة والشرطة -التي ارتكبت مخالفات بغض الطرف - وعامة الناس وإصدار توصيات حول مستقبل الصحافة وتنظيم العمل الصحفي.
علي مدي سنة كاملة حقق لورد ليڤيسون وفحص مئات وآلاف الأوراق والأدلة والبراهين .. استمع إلى شهادات وشكاوي من كل من كان له علاقة أو يظن أن له علاقة بهذه الفضيحة التي سُميت "مردوخ غيت" .
وقد مَثل "كاميرون" - نفسه- أمام لجنة اللورد ليڤيسون في إطار هذه التحقيقات وأذيعت الجلسات علي الهواء مباشرة كي يري الناس كيف يتعلثم "كاميرون" أمام القاضي ويحكموا بأنفسهم إن كان قد ارتكب أخطاء فادحة بعلاقته الحميمية مع روبرت مردوخ وربيبته ربيكا بروكس وبتعيين مستشار إعلامي ( آندي كولسون ) ليس اهلا للثقة اتضح فيما بعد تورطه في ارتكاب جريمة تلصص علي الهواتف النقالة لاثنين من وزراء الداخلية السابقين وهما تشارلز كلارك وديفيد بلانكت.
لم يكن المشهد سعيدا بكل تأكيد. فالصحافة البريطانية كانت دوما تتفاخر بأن لها من القواعد المهنية والتحريرية ما يجعلها بحق سلطة رابعة في البلاد ..وعلي مدي سبعين عاما لم تشهد أروقة صاحبة الجلالة سوي سبعة تحقيقات فقط بهذا النمط.
نال تقرير لورد ليڤيسون من مصداقية الصحافة البريطانية الكثير وخرجت من تحت يديه مثخنة بالجراح. والرجل لم يتراجع عن مهمته لم يهتم ولم تأخذه شفقة ولا رحمة كان مثل الجراح الذي بين يديه مريض يعاني من ورم سرطاني متوغل ... فساد .. رشوة موظفين عموميين تنصت علي هواتف الناس وعرقلة سير العدالة وتجاهل حقوق الأفراد وخصوصياتهم من أجل الحصول علي قصة مثيرة.
لكن التقرير برأ "كاميرون " من تهمة المتاجرة بالنفوذ السياسي من أجل الحصول علي دعم مردوخ وإمبراطورية الإعلامية بعد أن لقنه درسا لن ينساه بضرورة التعامل من الصحافة من بعيد ودون الخوض في علاقات مقربة من أروقة الصحافة.
لم تنته مهمة قاضي الاستئنافصاحب الصيت اللامع عند هذا الحد. فالعلاج الممتد من أبجديات العمل الجاد لم يقتنع لورد ليڤيسون بما يسمي بالرقابة الذاتية التي تمارسها المؤسسات الصحفية. فأوصي بوضع "قانون منظم" للعمل الصحفي وهيئة تكبح جماح الطموح المرضي لبعض الصحفيين وجنون صاحبة الجلالة. فجاء باقتراح الميثاق الملكي وهيئة الرقابة المستقلة.
كلفوا الرجل بالمهمة وأتمها هو علي خير وجه وألقي بالكرة في ملاعبهم. وكان عليهم أن يختاروا ... صحافة حرة طليقة لا يقف أمامها شيء حتي حدود خصوصيات البشر والتلاعب بحياتهم الخاصة أو صحافة مقيدة مرتجفة اليد لا تقوي علي الانتقاد والإشارة إلى مواطن الخلل.
لن ينتهي الجدل بصدور الميثاق الملكي وتشكيل الهيئة الرقابية ولن يتراجع أباطرة الصحافة البريطانية عما أعتزموه. فلماذا يتحمل الجميع وزر قلة قليلة اخطأت وتقف اليوم أمام القضاء الجهة الوحيدة التي لها الحق في أن تحاسب من أخطأ وأجرم.
لا يوجد أسود وأبيض ولا حلول جاهزة .الحل في النقاش المجتمعي الذي يشارك فيه الجميع. فهكذا تبني الديمقراطيات العريقة دولة المؤسسات.
ضغوط ومطالب تمارسها سلطة التشريع الممثلة للشعب علي سلطة التنفيذ التي تتصرف بمسؤولية  فتكلف بدورها سلطة القضاء حتي يعلم الجميع من المخطئ ومن المصيب. ... وكل ذلك من أجل احترام "ميلي" رمز المواطن حتى وإن كان غادر دنينا الي الحياة الأخرى.
   

الأحد، 22 ديسمبر 2013

المتشددون يغزون مقاعد الدراسة في بريطانيا




كيف تسلل المتشددون إلى أروقة الجامعات البريطانية وأجبروا النساء علي الجلوس في المقاعد الخلفية 

من الصعب أن يتخيل القارئ في العالم العربي أن تثير قضية الفصل بين الجنسين الجدل في بلد مثل بريطانيا. فالكثيرون في العالم العربي يعتقدون أن مثل هذا القضايا لم تعد موجودة أصلا في الغرب وهناك من يظن أن الاختلاط في الجامعات الاوروبية مباح على الغارب حتي في غرف نوم المدن الجامعية وهو تصور مغلوط برمته. فالجامعات البريطانية تحكمها ضوابط صارمة في الكثير من مناحي الحياة الجامعية ومقاعد الدراسة وبالتأكيد في المدن الجامعية ومن يخرج عن هذه القواعد لا يسلم من المُسألة ولا يأمن من العقاب. 
غير أن الجدل الدائر في الجامعات البريطانية الآن والذي وصل إلى أعتاب داوننج ستريت وأستدعي تصريحا قويا من رئيس الوزراء "ديفيد كاميرون" أوضح فيه بجلاء أن لديه رأي ثابت في قضية الفصل بين الجنسين في مقاعد الدراسة الجامعية وأنه ليس من المقبول أن يملي أي متحدث في منتدي جامعي إرادته علي الحياة الجامعية التي تتمتع بتقاليد راسخة في حرية التعبير وخاصة في المؤسسات التعليمية.   
لم يكن التصريح الذي جاء من أكبر المؤسسات التنفيذية في البلاد الاول في القضية ولم يكن الأخير أيضا بل جاء ليفتح فيضا من التعليقات والتصريحات في الدوائر الجامعية وخارجها تراوحت ما بين الدهشة والاستغراب ومرورا بالشجب والاستنكار وانتهاءا بالتظاهر خارج المباني الجامعية بلافتات تندد ب  "الفصل العنصري القائم علي أساس الجنس"
كان من الممكن لأي رئيس حكومة غربية أن يفلت بهذا التصريح ويسمع الكثير من المديح أو حتي التأييد والموافقة على ما يقول. لكن بريطانيا صاحبة التقاليد العتيدة دائما ما تعود إلي القوانين والقواعد. فالقوانين لم تُسن لتُخرق ولم تُوضع كي تُنتهك إنما هي الفيصل في النزاعات والخلافات كبيرة كانت أم صغيرة.  والقوانين تشير إلى أن من حق المؤسسات الجامعية أن تطبق "طواعية" الفصل بين الجنسين في بعض المناسبات داخل الحرم الجامعي كما أكدت "نيكولا دانريدج" الرئيسة التنفيذية للجامعات البريطانية. والتي أصرت علي أن الجامعات يجب ألا تفرض مبدأ الفصل فرضا قسيرا لكنها يمكن أن تسمح بالفصل إذا ما ابدي المشاركون في ندوة أو تدريب ما رغبة في ذلك. 
لكن القوانين والقواعد الجامعية ليست هي الحاضرة في هذا الجدل فحسب فمن يعرف المجتمع البريطاني حق المعرفة يعلم تمام العلم أن الفصل بين الجنسين مبدأ ثابت وأصيل في كثير من المؤسسات الجامعية والمدرسية أيضا. وأنا شخصيا أتذكر عندما كنت أقوم باختيار مدرسة لابنتي فوجئت بأن غالبية المدارس التي تتمتع بسمعة جيدة في المجال الاكاديمي والتربوي مدارس منفصلة ونفس الحال بالنسبة للاولاد. فكثير من التربويين في بريطانيا يؤمنون بأن الفصل بين الاولاد والبنات في المراحل الدراسية الاولي يعود بالفائدة على الأطفال ذكورا كانوا أما أناثا.  كما أن هناك العديد من الكليات النسوية في بريطانيا التي تتمتع بسمعة أكاديمية ممتازة لكن ذلك راجع الي التقاليد البريطانية العتيقة التي كانت تحرم البنات فيما مضي من قسط وافر من التعليم فتحولت هذه المؤسسات التعليمية إلى مراكز تنوير ودعوة لمنح الفتاة قسطا عادلا من التعليم يناهز أقرانها من الذكور. 
كان من الممكن أن يبقي الجدل والنقاش في أروقة الجامعات والمدارس وبين ضفاف الدراسات التربوية والنسوية إذا ما جاء الحديث عن الفصل في المقاعد الجامعية في سياقه الطبيعي لكنه لم يكن كذلك.  
كانت البداية مع تقرير أصدرته مؤخرا هيئة تطلق علي نفسها اسم "حقوق الطالب" اشار إلى أن مايزيد على ربع الزيارات الأكاديمية التي يقوم بها متحدثون "إسلاميون" إلى الجامعات البريطانية ينتج عنها فصل بين الفتيات والشباب في أروقة الجامعة. 
تلقفت بعد ذلك الصحف ذات التوجهات اليمينية مثل ديلي ميل الموضوع ونشرت صورا لندوة استضافتها جامعة ليستر في فبراير الماضي تحت عنوان "دورة تدريبية على الدعوة الإسلامية" ظهر فيها القاعة وقد احتل الرجال المقاعد الامامية فيما تُركت المقاعد الخلفية للنساء. نشر الصورة التي لا تختلف كثيرا عن مقاعد الدراسة في القاهرة أو بني غازي أو حتي صنعاء أثار الكثير من الاستهجان: فكيف تُجبر المرأة في بريطانيا البلد صاحب التقاليد العريقة في الحفاظ على حرية الرأي والتعبير والتي تنادي بالمساواة - على الجلوس في المقاعد الخلفية وأين ؟ في قاعة دراسية في أحد أكبر الجامعات البريطانية؟ 
 تحت ضغط الهجوم في الصحافة البريطانية اضطر المتحدث في هذه الندوة بعينها"سليم شاغاتي" الذي ينتمي إلى هيئة تطلق على نفسها "الاكاديمية الاسلامية للتعليم والبحث" في الدفاع عما بدا في الصورة من تميز ضد المرأة وقال إن النساء المسلمات اللاواتي حضرن الندوة كان من الممكن لهن الشكوي إذا ما كن قد شعرن بأن ظلما قد لحق بهن. مضيفا أنه لابد وأن الصورة التقطت في بداية الندوة قبل امتلاء القاعة بالنساء.
لم يقف دفاع "شاغاتي" عند هذا الحد فقد احتمي بدوره بالقوانين والقواعد مشيرا إلى أن منظمي الندوة استشاروا لجنة حقوق الانسان للحريات والمساواة التي (أي اللجنة) أفادت بأن ما قامت به الندوة من فصل بين النساء والرجال في إطار القانون طالما تم توفير منطقة بها مقاعد مختلطة لمن يرغب في ذلك ( وهو ما لم يحدث واقعيا بالطبع ). ولم يقف "سليم شاغاتي" عند هذا الحد بل قال إن على ديفيد كاميرون أن يقوم باداء "فروضه المدرسية" واستذكار القواعد الخاصة بهذه الموضوع بدلا من أن يحاول التربح مشكلة غير موجودة أصلا".
لكن هذا الدفاع من الهيئة المسماة "الاكاديمية الاسلامية للتعليم والبحث" لم يمنع الكثير من اللغط حولها حيث تم منع الأكاديمية من إدارة نقاش تحت عنوان " هل هناك رب؟ " كان من المفترض أن تستضيفه كلية لندن. وطلبت فيه أيضا الفصل في المقاعد بين الجنسين. غير أن نفس الاكاديمية التي قيل إن عددا من أعضائها يتبنون طرحا متشددا خاصة فيما يتعلق باوضاع المرأة تم السماح لأحد أعضائها مجددا بدخول جامعة ليستر لكن أحدي الصور لمدخل القاعة التي استضافت الندوة والتي اظهرت بوضوح ضرورة دخول "الأخوة" من جانب و" الأخوات" من جانب أخر أثارت الكثير من اللغط وأجبرت إدارة الجامعة على التأكيد على عدم تكرار هذا النهج في الفصل بين الجنسين والتحقيق مع "الجماعة الأسلامية" أحدي الجامعات الطلابية في حرم الجامعة والتي تفاخر بتطبيق مبدأ الفصل بين الجنسين. 
لم يفلح دعاة الفصل بين النساء والرجال في مقاعد الدارسة الجامعية في التمترس طويلا وراء القواعد التي جعلتهم يستخدمون المبادئ التي وضعت من أجل حرية التعبير لغرض الحد من حرية التعبير. ولم يفلحوا كذلك في اقناع مناؤيهم بأن هذا القاعدة تستخدم لاسباب عقائدية وهو ما تحرص عليه الهيئة العليا للجامعات البريطانية كمبدأ أصيل. 
فبعد أن قالت الهيئة العليا للجامعات الشهر الماضي إن الجماعات الدينية الاصولية ( والتي تضم في هذه الحالة المجتمعات المسلمة) من حقها أن تمارس الفصل بين الجنسين في الندوات والاجتماعات العامة التي تعقد في أروقة الجامعة. عادت - تحت الضغط السياسي والاعلامي - لتعلن أنها ستقوم بالعمل مع لجنة حقوق الانسان للمساواة بغرض مراجعة القواعد الخاصة بالفصل بين الجنسين والعمل على تعديلها حتي لا تكون مجحفة بأي صورة من الصور للمرأة. 
وزاد ديفيد كاميرون في التأكيد علي أنه متمسك بكل ما اعلنه في هذا الشأن لكنه أكد في نفس الوقت علي أن هذا الموقف الرافض للفصل بين الجنسين في أروقة الجامعة لا ينسحب بأي حال من الأحوال على دور العبادة ولا يقصد به أي إساءة لمعتقد. وتبعه تصريحات من عدد من الساسة المعروفين بتأييدهم للمجتمع المتعدد الثقافات مثل "جاك سترو" القطب الكبير في حزب العمال المعارض والبروفيسير طارق رمضان أستاذ الاسلام الحديث في جامعة اكسفورد الذي أكد على أن لا يوجد نص قرآني أو حديث شريف يلزم بالفصل بين الجنسين في مقاعد الدارسة.  ووسائل الأعلام لم تتوقف عند تذكرة الناس بالمدرسة الإسلامية التي فرضت على البنات الجلوس في المقاعد الخلفية وسمحت للولاد فقط بالجلوس في المقاعد الأمامية. 
لم ولن ينتهي الجدل في هذه القضية عند هذا الحد فمن يرغبون في فرض الفصل بين الجنسين ووضع المرأة في الصفوف الخلفية يستغلون مناخ التعددية الثقافية التي تباهي به بريطانيا كثير من الدول الأوروبية ويلعبون بقواعد حرية الرأي والعقيدة لصالح التميز ضد المرأة. لكن لن يبقي الأمر طويلا كي يكتشف المدافعون عن الحريات أن الأمر لا يعدو كونه "حق أريد به باطل"