Translate

الجمعة، 14 يونيو 2013

الإيرانيون لا يعصرون الليمون


                          
في مثل هذا اليوم قبل أربع سنوات كنت أقف شاهدا علي طوابير طويلة من المواطنين الإيرانيين يدلون بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية. اعترف أنني فوجئت بمثل هذا الإقبال المنقطع النظير من المواطنين الذين يعتبرون أن الإدلاء بأصواتهم أمانة وواجب وحق لله والوطن - هكذا قالوا لي.  كان من اللافت أن طوابير النساء كانت أطول بكثير من طوابير الرجال. سيدات من مختلف الاعمار والتوجهات والمشارب منهن من تحمل الكتب الدراسية والبلاك بيري ومن جاءت تحمل طفلها الوليد الذي لم يتجاوز عمره أيام ومن تنتمي الي الطبقات الشعبية ترتدي "الشادور" وهو اللباس الأسود التقليدي للايرانيات وهو  بالمناسبة ليس له علاقة بدرجة تدين من ترتديه بل يشبه الي حد بعيد "الملاية اللف" التي كانت ترتديها المصريات فيما مضي من زمن. 
جاء الإيرانيون من كل صوب وحدب وفي عيونهم الأمل في أن تأتيهم الانتخابات بالجديد .. أي جديد يحرك البحيرة الراكدة من حولهم. كان من الواضح أنها معركة تكسير عظام بين الاصلاحيين والمحافظين.
 في الأيام التي سبقت الانتخابات كان الحشد بين المعسكرين علي أشده شوارع طهران اكتست باللافتات الانتخابية ومؤيدو الطرفين يجوبون شوارع طهران في تتابع مثل موجات بشرية. تخرج مظاهرة لمؤيدي المرشحين الإصلاحيين تغني  "يادكتور سرقت الذهب والنفط وأعطيتنا أجولة البطاطس" وذلك في تهكم علي الرئيس محمود أحمدي نجاد الذي كان - حسبما قال الناس لي - يوزع علي الفقراء أجولة البطاطس بنفسه خلال الليل. وبعدها بدقائق تخرج مظاهرة آخرى لمؤيدي المحافظين تنشد الأناشيد الدينية وتقسم بالولاء لاتباع "الإمام" أي الإمام الخوميني ومحاربة "عبيد الأمريكان". 
 تجولت في العديد من مناطق طهران أرصد نبض الشارع الإيراني وكان الانقسام والاستقطاب واضحا للغاية. معظم سكان المناطق الفقيرة كانوا من المؤيدين لاحمدي نجاد حتي الشباب منهم . استطاع أحمدي نجاد ببراعة ومن خلفه المؤسسة الدينية المتنفذة أن يغذي أحلام البسطاء بأنه سيجعلهم القوة النووية الضاربة في العالم سيقفون في وجه أمريكا "الشيطان الأكبر".
قالوا لي أنه بسيط طاهر اليد يرتدي نفس الملابس التي كان يرتديها قبل أن يتولي الرئاسة. يمشي مثلهم في الأسواق ويأكل مثلما يأكلون ويقبل يد المرشد ويمتزج مع الملالي. 
علي الطرف الآخر من مدينة طهران المزدحمة والتي يخنق عادم السيارات أنفاس من يسير فيها وجدت شريحة آخري من الإيرانيين. الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة التي تحلم بالحرية والديمقراطية وحرية الاعلام والانترنت وأشياء كثيرة ربما لا تهم أقرانهم من الطبقات الدنيا والشعبية. لم أجد صعوبة في التواصل معهم. معظم يجيد الانجليزية بطلاقة والغالبية منهم يتحدثون بلكنة أمريكية واضحة. يرتدي الشباب منهم الملابس علي الطراز الغربي كان أحدهم كان يرتدي تي شيرت مكتوب عليه I love New York مازحته قائلة إلا تخشي من الشرطة الدينية رد قائلا "كلنا نحب أمريكا أنا احبها في العلن وهم يحبونها في الخفاء".
في وقت متأخر من الليل وقفت الفتيات اللواتي يتوفرن علي نسبة عالية من الجمال يوزعن علي السيارات المنشورات التي تدعو إلى انتخاب أحد المرشحين الإصلاحيين "مهدي كروبي" و"حسين موسوي" ( وكلاهما قيد الإقامة الجبرية منذ اربع سنوات وحتي اليوم ) قالت لي إحداهن وهي تحاول في دلال إعادة الايشارب الصغير الأنيق علي رأسها من جديد: "سننتصر هذه المرة". ولم ينتصروا ! 
اخترت أن يكون بازار طهران آخر محطة في جولاتي في عاصمة كنت أعلم أنني ربما لن أتمكن مرة أخري من زيارتها. في جنبات الحوانيت الصغيرة المتلاصقة ببعضها البعض كانت هناك بعض من أفخم وأجمل أنواع السجاد التي يمكن أن يراها أي شخص في حياته. كان واضحا أن لا تجارة ولا بيع ولا شراء. بل ركود وركود. يعتمد بعضهم علي السفر وبيعها في الخارج أو عليه انتظار ما ندر من السياح الأجانب الذين يغامرون بالقدوم إلى هذا البلد الذي تخنقه الكثير من التعقيدات والمخاطر الأمنية. في ثالث محل وقعت عيني علي لوحة مغزولة بخيوط حريرية صورة للرئيس المصري الرحل جمال عبد الناصر ! لم أتمالك نفسي من الدهشة ابتسم صاحب المحل قائلا لم الدهشة أنه زعيم وطني نحبه كثيرا ونقدره أنه مثل الزعيم محمد مصدق. وكيف يمكن للشعوب أن تنسي من ينحاز لها ويقف في وجه الإمبريالية الغربية ؟ 
كان حديث البازار مغلفا بكثير من الحذر. تعلم الإيرانيون ألا يكونوا منفتحين مع الغرباء. إنهم يعشقون الحديث في السياسة لكنهم لا يفصحون بالضرورة عمن سينتخبون. التجار منهم علي وجه الخصوص - وهم طبقة متنفذة ويحسب لها حساب - لا يمكن أن يكشفوا بوضوح عن خياراتهم السياسية ولكنهم لا يفرطوا في حقهم الانتخابي أبدا. اكتفوا بالإشارة إلى صعوبة الحياة ووقف الحال فى ظل عقوبات اقتصادية خانقة. ربما يأت الغد بجديد - قال لي أحدهم. ولم يأت الغد بجديد. 
في يوم الانتخابات نفض الجميع أحلام الليالي السابقة وارتدوا أجمل ما لديهم وذهبوا إلى الحرب ....إلى مراكز الاقتراع. كان يوما طويلا ومرهقا انتشرت فيه الشرطة بكثافة . أمرني أحدهم في صلافة أن أغلق جميع أزرار معطفي قبل أن يسمح لي بالدخول الي مركز الاقتراع الذي أقيم في أحد الحسينيات. ولم يسمح آخر للمترجمة التي ترافقني بدخول لجنة أخري علي الرغم من أنها مُعينة من قبل وزارة الثقافة والإرشاد.
طوابير الإيرانيين أجبرت السلطات علي تمديد وقت الاقتراع ثلاث مرات. قبل إغلاق المراكز طيرت احدي الوكالات الغربية خبر فوز "موسوي". قضينا الليلة ما بين تكذيب خبر وتصديق اخر وفي الصباح جاءت الأنباء بما لا يشتهي الكثيرون. تأهب الجميع وبدأ الحشد. العرس الديمقراطي الكبير تحول في اليوم التالي إلى كابوس. قضينا ساعات طويلة فى انتظار ما نعرفه بالفعل وعلينا أن نؤكده فقط "فاز أحمدي نجاد بولاية ثانية" 
لم ينتظر الإيرانيون مثلنا إعلان النتائج الرسمية وبدأت الاحتجاجات والملاحقات من شارع لشارع والضرب بالهروات وإطلاق الأعيرة النارية. خرج الإيرانيون غير مصدقين كانوا يعلمون أنهم أختاروا بوعي وعن ثقة في المستقبل. وحدثت الخديعة وتم تزييف إرادتهم. هذا ما كانوا يقولون لي والشرطة تلاحقنا معا من شارع لشارع. 
كان أخر يوم في طهران . ذهبت برفقة بعض الزملاء إلى مكان بعيد نلتمس قدرا من الراحة بعد ثمانية أيام من العمل الشاق. في الطريق كان واضحا أن الغضب أخذ مداه. مع دقات الثامنة مساء أطلق جميع سائقي السيارات صفارات سياراتهم وأطفئ من في البيوت الأنوار .. سبحت طهران في الظلام لدقائق. أخذت تروي المترجمة - وهي من أصل عراقي ولا تجرؤ حتى على نطق اسمها الحقيقي "شيماء" واستبدلته باسم فارسي "شيوا" كيف أن زوار الفجر أخذوا جارها الشاب ذات يوم ليعود بعد عشر سنوات كاملة في السجن وهو حطام إنسان سألتني في حسرة : "هل هذا هو الدين ؟ إذا كانوا المتدينون يفعلون ذلك فماذا يفعل الكفار؟" 
هناك علي الجبل كانت الأمور أكثر هدوءا إلا من بعض الشباب الذين كانوا يبكون في الشارع حزنا صرخ بعضهم فينا "مبسوطين ؟ عاد أحمدي نجاد سيظل كابوسا لأربع سنوات" وظل كذلك
عندما هبطنا إلى الشارع بعد راحة قصيرة لم نعد إلى نفس المدينة تبدلت فى ساعات. لا تنمحي من ذاكرتي صورة فتاة بارعة الجمال صبغت أظافرها ببراعة بلون أحمر وتحمل بكل عناد حجرا كبيرا وتدق في عنف وجنون على الحواجز الحديدية ويتردد الصوت نفس الصوت فى كل أنحاء طهران. 
كان من المحزن جدا أن أشهد هذه التقلبات ما بين الأمل والرجاء واليأس. 
لكنهم عادوا من جديد بعد أربع سنوات ... بامل جديد فى الغد وأن المعجزة ستحدث ذات يوم وتتحقق إرادتهم السياسية .. فالإيرانيون لا يعصرون الليمون..