Translate

الاثنين، 22 أبريل 2013

مصر منورة بأهلها


مصر منورة باهلها
لا تكف مصر المحروسة عن تفجير بالونات الدهشة فى وجه أى شخص يتابع جنونها وتقلباتها وشطحاتها. ما أن يبتعد المرء عنها بضع أسابيع حتى يعود إليها فيجدها دولة غير الدولة وبلد غير البلد. 
وقد لا يلاحظ من يعيش فيها هذه التقلبات والشطحات كثيرا. لكن من يبتعد عنها قليلا يعيش صدمة حضارية فى كل مرة يعود فيها إليها.  وأضافت مصر بعد الثورة لجنونها وتقلبها وتغيرها الكثير من البهارات والنكهات والألوان. القليل منها يثير الإعجاب والبعض يثير الضحك والكثير يثير الأسى. فلا تعرف أين أنت من كل ذلك. 
سائق التاكسي في شوارع القاهرة يعتبر بالنسبة لى ترمومتر الحرارة لما يحدث في الشارع المصري. وأشعر بالفعل أنه يعكس ما يدور في قلب وعقل المواطن المصري دون فزلكة أو تحليلات سياسية أو شروح مطولة فى الاقتصاد. ولأنني أخاف دوما قيادة السيارات فى شوارع المحروسة ولا اجرؤ على مغامرات المواصلات العامة فاعتمد فى كل تنقلاتى علي التاكسي. 
في الصيف الماضي قال لى معظم سائقى التاكسي : "أنا اخترت الرئيس مرسي والاخوان المسلمين علشان بيعرفوا ربنا كفاية بقى فساد" عندما جئت إلى مصر في زيارة عمل فى شهر يناير تكررت على مسامعي من نفس الشريحة -شريحة سائقى التاكسي عبارة " أنا ما انتخبتش الاخوان ولا انتخبت مرسي". وفى زيارتي الأخيرة فى أوائل الشهر الجاري تبدل الحال من جديد وأصبحت العبارة الدارجة على لسان رفاق طريقى من سائقي التاكسي "أنا انتخبت اللواء شفيق" وزاد أحدهم عبارة "دا انا كنت رايح اهنيه" وقبل أن أغادر البلد بعد زيارة لم تدم أكثر من أسبوعين كان سائقو التاكسي يؤكدون لى : "عايزين مبارك يرجع أنا ح ابوس أيده يرجع" 
هذا عن تقلبات رجل الشارع المصري وتبدل آراءه من النقيض إلى النقيض. 
فى يوم واحد طالعت أربعة أخبار فى صحيفة واحدة جعلتني أضحك طويلا ( من الغلب ) وأقول لنفسي سبحان الله ! 
الخبر الاول أن القضاة يتنحون بالجملة عن محاكمة الرئيس المخلوع مبارك وأن هناك حيرة وتوترا بين القضاة خوفا من نظر القضية المتهم فيها. 
والخبر الثاني يقول إن الدفاع عن المتهمين فى قضية تهريب السجناء من سجن وادي النطرون أثناء ثورة ٢٥ يناير طلب من المحكمة استدعاء الرئيس الحالي محمد مرسي للاستماع إلى شهادته بصفته "مسجونا سابقا"!  ولسؤاله عن كيفية هروبه من السجن وكيف حصل على هاتف "الثريا" الذي تحدث من خلاله إلى قناة الجزيرة القطرية. 
أما الخبر الثالث فكان عن "تكريم" جامعة الأزهر الدكتور أسامة العبد رئيس الجامعة الذي أُقيل على خلفية تسمم آلاف الطلاب بالمدينة الجامعية ( أي والله) 
أما الخبر الرابع فكان عن وزير الاعلام صلاح عبد المقصود الذي وجهت اليه صحيفة شابة أثناء حديثه عن سؤالا يقول " أين هى حرية الاعلام والصحافة ؟" فما كان من الوزير اللامع أعزه الله إلا أن رد بالقول : "ابقي تعالى اقولك فين" ! 
لست مولعة بفكرة ماذا يمكن أن يكون أو ماذا يجب أن يحدث. لكننى مغرمة بقراءة الواقع حد الإدمان. ولا انشغل كثيرا بالدراسات الاجتماعية والجيوسياسية والمؤشرات الاقتصادية قدر انشغالي بما يقول البشر. 
والبشر فى بلادي اليوم -كما رأيتهم- يتخبطون كثيرا ولا يعرفون الصواب والخطأ. الناس تعبوا كثيرا ولم يعد لديهم قدرة على استيعاب ما يحدث. لم يعد لديهم الرغبة فى أن يحتملوا المزيد من التخبط والأخطاء المتكررة. لديهم خيبة إمل كبيرة فيما يحدث ولا يعرفون متى ينتهي هذا الكابوس ليس لديهم مانع حتى من أن يرتدوا من إجل لقمة العيش الثوب القديم الذى مزقوه فى حالة صحوة نادرة لا تتكرر إلا كل مائة سنة. 
لا يعرف الناس اليوم من المجرم ومن المظلوم. من السجين ومن السجّان .. لا يعرف الناس من يستحق العقاب ومن يستحق التكريم .. لا يعرف الناس اليوم هل يضحكون من الغباء إم من الوقاحة. 

الأربعاء، 17 أبريل 2013

ماجي .. رحلت في هدوء وتركتهم يتحدثون …



من الصعب الا يتوقف المرء أمام رحيل بعض الشخصيات ويتحدث عنهم . من الصعب أن يكون المرء يعيش في المملكة المتحدة ولا يتحدث عن مارجريت ثاتشر وعن رحيلها وعن حياتها وسيرتها. فالسيدة ثاتشر كانت - ولا شك- قامة تاريخية بمعني الكلمة. لكنني لا أود أن اتحدث بكلام عما يعرفه الكثيرون من أنها أول سيدة ترأس الحكومة البريطانية ولا عن سياساتها الاقتصادية التي اخرجت علي قسوتها بريطانيا من نفق الركود الاقتصادي ولا عن حربها الضروس مع النقابات العمالية والتي نجحت فيها واستحقت عنها لعنات العمال والبرولتاريا حتي الان. لكنني اتوقف أمام الأرث الانساني لهذه السيدة. 
المجتمع البريطاني لمن لا يعرف مجتمع تقليدي بامتياز بطبيعته وليس لتدينه. هذا المجتمع مازال فيه الناس يقولون للنساء حين يلدن بنتا "تهانينا" وحين يلدن صبيا "احسنت صنعا". يذكرونني دوما بالعائلات الصعيدية. وأعرف في محيطي الصغير ثلاث عائلات مزينة بثلاث فتيات. فالطبيعي أن تنجب العائلات طفلين ولكن لمن لم يحالفها الحظ بانجاب صبي تحاول المرة الثالثة. لكنها غالبا تتوقف بعد ذلك عن المحاولة لاسباب اقتصادية. فانجاب الاطفال وتربيتهم من أعلي النفقات التي تواجهها أي أسرة بريطانية. 
لا يفصح البريطانيون كثيرا عن تفضيلهم الصبيان عن البنات وجري العرف في السنوات الاخيرة أن تتحدث النساء البريطانيات عن فضيلة انجاب البنت او أن البنت زي الولد. لكن هذا الحديث يبقي مردوده علي النطاق العملي محدودا. فاذا نظرنا مثلا لمصروفات المدارس الخاصة ومعظمها تفصل بين الاولاد والبنات نجد فروقا كبيرة. مصروفات مدارس الصبيان أعلي بشكل كبير من مصروفات مدارس البنات وهو ما يعني أن العائلة تقبل علي دفع أكثر لتعليم الصبي تعليما خاصا. 
في الاطار الديني مازالت الكنيسة الانجليكانية ترفض حتي اليوم ترسيم "قس امرأة" وقد كانت هذه معركة شرسة خلال الشهور الماضية وباءت محاولات النساء دخول السلم الكنسي بالفشل. وأثارت قضية ما اذا كان يجب السماح للنساء بكسر حاجز الفصل الجنسي لتتولي مناصب رفيعة في الكنيسة جدلا واسعا. 
نظرة بسيطة إلي المرأة البريطانية في مجال العمل تؤكد أنها مازالت تحصل علي أجر أقل من نظيرها الرجل عن نفس العمل. وأن نسبة النساء في المناصب القيادية مازالت أقل بكثير من الرجال. 
كل ذلك يدل علي أن المجتمع البريطاني - علي كل التقدم الذي احرزه في المجال الحقوقي والانساني- مازال لا يعترف بالمساواة في الواقع العملي وشتان بين الواقع وما هو مكتوب من قوانين ووثائق علي الورق. ومن هنا تعتبر تجربة مارجريت ثاتشر تجربة نادرة وثرية واستثنائية أيضا. فلم يكن علي "ماجي" تخطي هذه الحواجز الذكورية فحسب لكن كان عليها أن تثبت نفسها فى مجال السياسة ايضا. وهو مجال ذكوري طبقي بامتياز. 
فلم يعرف ابدا أن السياسة البريطانية تحفل بوجود نساء لا فى المناصب القيادية ولا مناصب الصف الثاني حتي سنوات قليلة مضت. وعندما اختار توني بلير خمس عشرة سيدة دفعة واحدة حتي يكن في فريقه الوزاري في أوائل التسعينيات .. اطلقت عليهن الصحافة الشعبية لفظ "بلير تشكس" أي "دجاجات بلير" وهذا اللفظ يحمل بالطبع قدرا من السخرية وقدرا من التدليل في أن واحد ولكن مدلوله واضح بالطبع. حدث هذا بعد سنوات طويلة من نجاح مارجريت ثاتشر في الوصول للمرة الأولي الي سدة الحكم ورئاسة الحكومة البريطانية كأول امرأة في التاريخ ترأس حكومة بريطانية عن طريق الانتخاب وليس ذلك فحسب البقاء علي رأس الحكومة ثلاث مرات متتالية. 
لم تبرز ثاتشر في بيئتها السياسية الطبيعية. فقد كان الأجدر مثلا أن تكون سياسية في حزب العمال باعتبار أنها تنتمي إلي هذه الطبقة الاجتماعية وكان من الطبيعي في هذه الحالة أن يحتضن حزب العمال أو حتي حزب الاحرار الليبراليين "ابنة البقال" كما كان خصومها في حزب المحافظين يسخرون منها. لكنها اختارت أن تأتي من طبقة الشعب العاملة الكادحة لتقهر الطبقيين المحافظين في عقر دارهم!
كانت هذه طريقتها المميزة والخاصة جدا للنجاح أن تسبح عكس التيار أن تتميز في البيئة التي لا يمكن لمثلها أن تبرز فيها. أن تتميز كفتاة كسيدة من الطبقة العاملة الكادحة في بيئة ذكورية طبقية محافظة. لا يذكر كثير من البريطانيين اليوم "الحقبة الثاتشرية" بكثير من الاعجاب والحنين فقد كانت حقبة صعبة في حياة البريطانيين الذين اختاروا رغم كل شيء أن يعطوا رهاناتهم  السياسية ل "المرأة الحديدية" التي خلقت نموذجا اقتصاديا قاسيا ليس بالضرورة لاقتناعهم بصواب ما تفعل لكن لانهم يخشون التغيير والتبديل يخافون من المجهول وخبرتهم مع حزب العمال لم تكن سعيدة ايضا
فلم يعرف عن حزب العمال في الستينيات أنهم اقتصاديون مهارون أبدا وكان انقياد الحزب انقيادا أعمي للنقابات العمالية بشططها واهواءها الشخصية وتمترسها الدائم وراء سلاح الاضرابات الدائمة الاثر السلبي الكبير لدي المواطن البريطاني الذي يود العمل والانتاج. اجتماعيا وجهت ثاتشر ضربة قاصمة لقيم العائلة حتي دون أن تدري. 
وقبل اسابيع كنت اتحدث لزميل لي تجاوز منتصف الثلاثينيات عن السبب في احجامه عن الزواج وانجاب الاطفال فقال لي "السبب ثاتشر" فقد رسخت لدي جيلنا من البريطانيين أن لا فائدة ترجي من الكفاح من أجل عائلة فالامر لا يستحق العناء. وهذا ليس رأي زميلي فحسب فنظرة علي الخريطة السكانية تنبئ بأن المجتمع البريطاني أصبح مجتمعا هرما. ف ستون بالمئة من سكانه ممن فوق سن الخامسة والخمسين وعزوف الجيل الجديد عن الارتباط العائلي وانجاب الاطفال أصبح الغالب والسائد. 
لا يمكن اغفال مما حققته ثاتشر من انجازات اقتصادية وسياسية ولا يمكن القول إن حقبتها كانت ظالمة في مجملها. ولا يمكن ايضا اعتبار أنها شخصية عادية. استوعبت "ماجي" دروس الماضي بشكل ايجابي وكان لها من العقلية السياسية والنظرة الثاقبة ما اهلها للبقاء علي سدة الحكم ثلاثة دورات انتخابية متتالية. اتخذت قراراتها بمنتهي الحزم وتحملت بكل شجاعة ( واحيانا بكل صلف) نتائج سياساتها الي أن قهرها توني بلير بنفس سلاحها. تعلم منها الجراءة السياسية وأن الحكم بيد ضعيفة لا يكتب له البقاء. 
التاريخ لن يغفل مارجريت ثاتشر ابدا عندما يكتب صفحاته لكنه لن يتذكر الضعفاء من الحكام والسياسيين الذين ينتظرون اشارة من الأخرين.