مصر منورة باهلها
لا تكف مصر المحروسة عن تفجير بالونات الدهشة فى وجه أى شخص يتابع جنونها وتقلباتها وشطحاتها. ما أن يبتعد المرء عنها بضع أسابيع حتى يعود إليها فيجدها دولة غير الدولة وبلد غير البلد.
وقد لا يلاحظ من يعيش فيها هذه التقلبات والشطحات كثيرا. لكن من يبتعد عنها قليلا يعيش صدمة حضارية فى كل مرة يعود فيها إليها. وأضافت مصر بعد الثورة لجنونها وتقلبها وتغيرها الكثير من البهارات والنكهات والألوان. القليل منها يثير الإعجاب والبعض يثير الضحك والكثير يثير الأسى. فلا تعرف أين أنت من كل ذلك.
سائق التاكسي في شوارع القاهرة يعتبر بالنسبة لى ترمومتر الحرارة لما يحدث في الشارع المصري. وأشعر بالفعل أنه يعكس ما يدور في قلب وعقل المواطن المصري دون فزلكة أو تحليلات سياسية أو شروح مطولة فى الاقتصاد. ولأنني أخاف دوما قيادة السيارات فى شوارع المحروسة ولا اجرؤ على مغامرات المواصلات العامة فاعتمد فى كل تنقلاتى علي التاكسي.
في الصيف الماضي قال لى معظم سائقى التاكسي : "أنا اخترت الرئيس مرسي والاخوان المسلمين علشان بيعرفوا ربنا كفاية بقى فساد" عندما جئت إلى مصر في زيارة عمل فى شهر يناير تكررت على مسامعي من نفس الشريحة -شريحة سائقى التاكسي عبارة " أنا ما انتخبتش الاخوان ولا انتخبت مرسي". وفى زيارتي الأخيرة فى أوائل الشهر الجاري تبدل الحال من جديد وأصبحت العبارة الدارجة على لسان رفاق طريقى من سائقي التاكسي "أنا انتخبت اللواء شفيق" وزاد أحدهم عبارة "دا انا كنت رايح اهنيه" وقبل أن أغادر البلد بعد زيارة لم تدم أكثر من أسبوعين كان سائقو التاكسي يؤكدون لى : "عايزين مبارك يرجع أنا ح ابوس أيده يرجع"
هذا عن تقلبات رجل الشارع المصري وتبدل آراءه من النقيض إلى النقيض.
فى يوم واحد طالعت أربعة أخبار فى صحيفة واحدة جعلتني أضحك طويلا ( من الغلب ) وأقول لنفسي سبحان الله !
الخبر الاول أن القضاة يتنحون بالجملة عن محاكمة الرئيس المخلوع مبارك وأن هناك حيرة وتوترا بين القضاة خوفا من نظر القضية المتهم فيها.
والخبر الثاني يقول إن الدفاع عن المتهمين فى قضية تهريب السجناء من سجن وادي النطرون أثناء ثورة ٢٥ يناير طلب من المحكمة استدعاء الرئيس الحالي محمد مرسي للاستماع إلى شهادته بصفته "مسجونا سابقا"! ولسؤاله عن كيفية هروبه من السجن وكيف حصل على هاتف "الثريا" الذي تحدث من خلاله إلى قناة الجزيرة القطرية.
أما الخبر الثالث فكان عن "تكريم" جامعة الأزهر الدكتور أسامة العبد رئيس الجامعة الذي أُقيل على خلفية تسمم آلاف الطلاب بالمدينة الجامعية ( أي والله)
أما الخبر الرابع فكان عن وزير الاعلام صلاح عبد المقصود الذي وجهت اليه صحيفة شابة أثناء حديثه عن سؤالا يقول " أين هى حرية الاعلام والصحافة ؟" فما كان من الوزير اللامع أعزه الله إلا أن رد بالقول : "ابقي تعالى اقولك فين" !
لست مولعة بفكرة ماذا يمكن أن يكون أو ماذا يجب أن يحدث. لكننى مغرمة بقراءة الواقع حد الإدمان. ولا انشغل كثيرا بالدراسات الاجتماعية والجيوسياسية والمؤشرات الاقتصادية قدر انشغالي بما يقول البشر.
والبشر فى بلادي اليوم -كما رأيتهم- يتخبطون كثيرا ولا يعرفون الصواب والخطأ. الناس تعبوا كثيرا ولم يعد لديهم قدرة على استيعاب ما يحدث. لم يعد لديهم الرغبة فى أن يحتملوا المزيد من التخبط والأخطاء المتكررة. لديهم خيبة إمل كبيرة فيما يحدث ولا يعرفون متى ينتهي هذا الكابوس ليس لديهم مانع حتى من أن يرتدوا من إجل لقمة العيش الثوب القديم الذى مزقوه فى حالة صحوة نادرة لا تتكرر إلا كل مائة سنة.
لا يعرف الناس اليوم من المجرم ومن المظلوم. من السجين ومن السجّان .. لا يعرف الناس من يستحق العقاب ومن يستحق التكريم .. لا يعرف الناس اليوم هل يضحكون من الغباء إم من الوقاحة.