وللاحتجاج ثقافة ..
قد يظن البعض أن التظاهر والاحتجاج يلازم الأمم التي تشهد حراكا سياسيا وتغيرات إيدلوجية. لكن الواقع مغاير لذلك تماما. والحقيقة أن التظاهر والاحتجاج سمة تلازم أكثر المجتمعات ديمقراطية ، بل وتفخر المجتمعات الديمقراطية بأنها تكفل حق التظاهر والأحتجاج وتعتبر أنه واحدا من أنجع وسائل التعبير السياسي. دولة مثل بريطانيا تفاخر بأنها واحدة من أعرق الديمقراطيات الحديثة وتتمتع بتقاليد برلمانية راسخة ، يدرك المجتمع فيها أن الكثير من الحقوق السياسية والمدنية التي يتمتع بها اليوم لم يكن ليحصل عليها إلا بفضل مواطنين كان لديهم الشجاعة ورباطة الجأش في الخروج إلى الشارع والتظاهر للمطالبة بالحقوق ومزيد من الحريات.
كما أن الحقوق العمالية التي يتمتع بها الشعب البريطاني أيضا لم تأت وليدة الصدفة أوهبة من البرلمانيين القابعين تحت قبة ويستمنستر أومنحة من الحكومات المتعاقبة ، لكنها جاءت ثمرة صراع مرير بين الحكومة والعمال . وللعمال البريطانيين مع الأضرابات والمواجهات تاريخ ليس من المبالغة وصفه بالدموي. وأشرس هذه المواجهات بين حكومة المرأة الحديدية مارجريت ثاتشر وعمال المناجم في الثمانينيات والذين استمروا عاما كاملا من الأضراب عن العمل بعد أن رفضت ثاتشر تعديل برامج مجلس الفحم الحجري الخاصة بأغلاق المناجم. كانت معركة طاحنة كسبت فيها أول رئيسة حكومة في تاريخ بريطانيا الجولة ..لكن سمعة العداء للعمال وانتهاك حقوقهم بقيت تلاحقها طوال تاريخها السياسي.
لم يكن الطريق ممهدا وسهلا وقد يندهش البعض إذا ما عرفوا أن الحق في التظاهر السلمي لم يكن معترفا به في بريطانيا حتي عام ألف وتسعمائة وثمانية وتسعين بعد أن تم إقراراتفاقية حقوق الأنسان . وقد استغرق تنفيذ بنود هذه الاتفاقية قرابة عامين ودخلت حيز التنفيذ تحديدا في أكتوبر عام ألفين. حينها وحينها فقط أصبح التظاهر السلمي محميا بمقتضي القانون. حيث تنص الأتفاقية علي حماية حق التعبير وحرية التجمع والتظاهر بغرض الاحتجاج. وتحظر الأتفاقية في نفس الوقت علي الحكومة وأجهزة العامة ومن بينها الشرطة من انتهاك هذه الحقوق
لكن هذا الحق ليس مطلقا بل هو محكوم بعدة قوانين يمكن أستخدامها ضد المتظاهرين لمنعهم من التظاهر السلمي. وخلال السنوات القليلة الماضية تم إقرار تشريع للتعامل مع حالات بعينها من منع التظاهر إذا ما كان هناك مخاوف من وقوع عمليات إرهابية أو إجرامية أوإذا ما كان في ذلك اخلال بالنظام العام وكذلك ما يوصف بالتصرفات غير اللائقة اجتماعيا. وتخول هذه التشريعات للشرطة منع التظاهر اذا ما أرتأت ذلك حتي وإن كان سلميا.
وقد شاهدنا كيف اعتقلت الشرطة البريطانية عددا من الفتيات الاوكرانيات اللائي تظاهرن عاريات الصدر احتجاجا علي قرار اللجنة الأولمبية السماح للاعبات مسلمات بأرتداء الحجاب في منافسات أولمبياد لندن. حيث كتبت الفتيات اللاواتي ينتمين لمنظمة تدعي "فيمتن" علي صدورهن العارية "أولمبياد العار" و" لا للشريعة الإسلامية". ورأت الشرطة أن الاحتجاج غير لائق أجتماعيا وتم ترحيل الفتيات الأربع بعد أن وصمن بالطبع الشرطة البريطانية بالديكتاتورية والهمجية وعدم مراعاة حق أساسي من حقوق الانسان ألا وهوحق التعبير.
هذا بالطبع ليس المثال الوحيد وهناك أمثلة عديدة علي قيام الحكومة بألغاء الحق في التظاهر سلميا لما تراه من مصلحة عامة. وفي الواقع فأن الحكومات -أيا كانت- لا يسعدها علي الأطلاق رؤية هذه المظاهرة أوذلك الاحتجاج وهي علي الدوام تدين الأضرابات العمالية وتتهمها علي الفور بتعطيل مصالح الناس والأنانية وعدم المرونة وووو وغيرها لكن هذا لا يحول دون التظاهر والأضراب بل علي العكس يكون أحيانا الوسيلة الأسرع والأنجح في تحقيق المطالب.
في فورة الاستعدادت لدورة الالعاب الاولمبية في لندن أعلن العاملون في قطاع الجوازات والتأشيرات في المطارات الأضراب عن العمل يوم واحد قبل انطلاق الأولمبياد . قامت الدنيا ولم تقعد واتهمتهم الحكومة بمحاولة تخريب العرس الرياضي الكبير وتخيلوا الرياضيين العالميين قابعين علي أرضية المطارات يوم وليلة لأنه لا يوجد من العاملين من له سلطة فحص جوازات سفرهم والسماح لهم بدخول البلاد.
أصر العاملون علي موقفهم ولم يأخذ عامة الناس موقفا عدائيا من العاملين لم يتهمونهم بأنهم ليسوا وطنيين ولا يستحقوا شرف الانتماء للتاج البريطاني بل وجههوا اللوم للمسؤوليين والحكومة التي فشلت في تلبية مطالبهم . وكان التكتيك ناجعا وشافيا وسريعا بالفعل واضطر ممثلو الحكومة للجلوس إلي طاولة المفاوضات والأستجابة لمطالبهم العادلة.
تكرر المشهد بتفاصيل أخري في يوم السادس والعشرين من ديسمبر وهو اليوم التالي لعطلة يوم عيد الميلاد (الكريسماس) والذي يعرف باسم بوكسنغ داي وهو أكبر يوم في العام للتخفيضات والمشتروات وتنتظره العائلات طوال العام للحصول علي مشترواتها والسلع المعمرة كما تنتظره المحال التجارية لتعويض خسائرها في المبيعات .. لكن عمال مترو الانفاق قرروا الاضراب عن العمل فى هذا اليوم بالذات لالحاق اكبر ضرر ممكن بالهيئة والقائمين عليها
وأضطر الناس لركوب الباصات أو غيرها وقضوا ساعات بدلا عن ساعة . كان هناك حالة سخط وقتي لكن لم يلم احدا سائقي المترو علي استخدام حقهم القانوني في الأضراب لكنهم ألقوا باللوم علي الهيئة المنظمة لخطوط المترو والحكومة التي لا تستجيب لمطالبهم .
ولكن بالتوازي مع حفظ الحق في التظاهر ..علينا ألا ننسي أيضا أن للاضراب قواعد وأصول. فالدعوة إلي الأضراب يجب أن تستند لمطالب حقيقية وعادلة ـ علي الأقل من وجه نظر العمال. كما يجب أن تدعو إليه نقابات عمالية بعد إجراء تصويت بين أعضائها ويجب أيضا أخطار صاحب العمل قبل الاضراب بعدة أيام حسبما ينص القانون واللوائح.
نفس القواعد تنطبق علي التظاهر السلمي . وفعليا من حق أي مواطن بريطاني أن يدعو لمظاهرة احتجاج وما عليه سوي أن يبلغ الشرطة بمسار المظاهرة والشوارع التي ستسير فيها قبل موعد المظاهرة بست أيام حتي يمكنها أن تعلم الجهات التي قد تتأثر بمسار هذه التظاهرة مسبقا فتنصح العاملين فيها مثلا بتغير مسار ذهابهم الي العمل أوغير ذلك وحتي يمكن للشرطة تأمين سلامة المشاركيين فيها ( وليس اعتقالهم ) وحتي تتمكن أيضا من توفير عربات اسعاف في حالة وقوع تدافع أوحالة صحية طارئة.
ليس من حق الشرطة البريطانية قانونا الاعتراض علي مسار مظاهرة ما لكنها قد تنصح بذلك أو تقدم سببا معقولا لتغير المسار. ليس من هذه الاسباب سير مسؤول أو رئيس أو حتي أمير ويذكر الجميع كيف أن سوء طالع الامير تشارلز ولي العهد البريطاني ألقي به في خضم تظاهرة حاشدة لطلاب كانوا يحتجون علي ارتفاع نفقات التعليم الجامعي ف "عملوا معاه الصح " بتعبير الثوار المصريين.
جوهر التظاهر والاحتجاج والأضرابات هو الخروج عن نمط الحياة وسياقها العادي للتوقف والالتفات لحقوق مشروعة وأولها الحق قي التعبير والحق في المناداة بمطالب مشروعة .. التظاهر والاحتجاج أذن لا خوف منه فهو وسيلة مشروعة وسليمة ومنطقية وناجحة للحصول علي الحريات والحقوق ـ لكن عندما يتم استخدامها بالشكل الصحيح والفعال.