Translate

الأربعاء، 20 فبراير 2013

بنت الأبلة فكيهة



في سنوات عمري الصغير لم اقدر أبدا ولم افهم مغزي هذه المناداة. بالنسبة إلى كانت مجرد مناداة مجرد تسمية مثل اسمي "صفاء". كان جميع من حولي ينادوني "بنت الابلة فكيهة". 
 لم أجد غرابة أو حرجا أوحتي مجرد تساؤل يقفز إلى ذهني أو دلالات لهذه التسمية. تعاملت مع الاسم بشكل طبيعي واحيانا كثيرة بقدر من الفخر لان والدتي مدرسة في نفس مدرستي وفي سنوات تالية مفتشة في التربية والتعليم تراقب عمل المدرسين وتقيمهم وتقوم عملهم وفي بعض الأحيان كانت تدرس في الفصل فيتعلم التلاميذ والمدرسين في آن واحد. 
كل ما اذكره من هذه الكنية وقتها أن علي واجب إضافي أن أكون مثالا للانضباط ولا أقل من ذلك. ف "بنت الابلة فكيهة" ليس مسموحا لها أن تنسي الواجب أو الدفاتر أو الكتب مثلا. ناهيك عن إساءة التصرف أوحتي الشقاوة الطفولية. كان هذا حالي وحال أخوتي الخمسة:  "أولاد الابلة"  
بعد سنوات بدأت أدرك أشياء أخري في المحيط الذي أعيش فيه .. لم يكن مقبولا في بلدتي الصغيرة في أقصي صعيد مصر أن يُذكر اسم النساء علانية هكذا فهي أم فلان أو زوجة فلان واحيانا لا تنادي المرأة باسمها أبدا ولا يعرف لها اسم في غالب الأحوال الاسم اسم المرأة مسالة سرية للغاية .. ويشعر أي شخص تقريبا بالإهانة لمجرد أن يُسأل عن أسم والدته. وإن اضطر لذكر اسمها في مصلحة حكومية كان يهمس بالاسم. 
وبقي أسم أمي معلنا دون أدني حرج لنا ولها والاهم من ذلك لم يكن يزعج أبي قط يوما أن يُنادي علي زوجته باسمها وهو الذي تربي وعاش طوال حياته في اقاصي الصعيد. كانت أمي تختلف عن والدته التي كان يحبها حبا جما ولم اسمعه يوما يجادلها أو يرد لها طلبا. لكنه كان يدرك أن أمي من جيل مختلف تعلمت وعملت واختارت أن تكون بجواره لا خلفه. لم يطلب يوما من أمي أن تكون مثل جدتي. لم يشعر بالحرج أو الانزعاج أن يُنادي علي أطفاله باسم زوجته. وهو  مدير لمدرسة ثانوية في بلدة صغيرة وفوق ذلك يدير بعد الظهر عملا خاصا يحتم عليه الاختلاط بالناس من جميع الطبقات المتعلم والجاهل ..المتفتح والمنغلق ..البائع في الشارع والطبيب 
فى بعد تال كان لأمي معركة أخري ... هي معركة كل امرأة عاملة وأم. أن توفق بين متطلبات عملها وواجبات بيتها وأسرتها وللأمانة لا اعرف أبدا حتي يومنا هذا كيف فعلت ذلك في زمن لم يكن فيه "هوم ديلفري" ولا البقال بالتليفون ولا وجبات الميكروييف والخضار المجمد. ولم يكن الأسر والعائلات من الطبقة المتوسطة أمثالنا تعرف المطاعم سوي في الأعياد والعطلات الصيفية. لا أعرف كيف كانت تعمل ستة أيام في الأسبوع وتربي خمسة أطفال وتطهو بمعدل ثلاث أو اربع مرات في الأسبوع .. ولا أدري كيف كان في ثلاجتها كل يوم طبق حلو بعد الأكل المعتاد لزوجها واطفالها ومن يأتي فجأة لزيارتها من الاقارب والجيران. لا استطيع أن اتخيل كيف استطاعت أن تخيط ملابسنا الشتوية والصيفية ؟ كيف تمكنت ببراعة أن تعيش في حياة كل طفل من أطفالها الخمسة فهذا يريد أن يسافر في رحلة مدرسية وهذه ترغب في تعلم الانجليزية وتلك (أنا)  تريد أن تشارك  في جميع الحفلات المدرسية وكان عليها أن تخيط ملابس فريق الموسيقي وفريق المسرح. مجهود لا يقدر عليه فريق متكامل من الطباخين والخياطيين والمربيات. 
وفي بعد ثالث كان علي أمي أن تشق طريقها بثبات في مجتمع صعيدي ذكوري محافظ لا يعتد بقيمة المرأة وعمل المرأة. وكانت أمي "قاهرية" غريبة لم تكن ابنه ذلك الرجل أو أخت لآخر. لم يكن في يديها من سلاح سوي عملها وإخلاصها ودأبها.  لم اسمع أمي يوما تقول إنها ستترك العمل وتهرب من المسؤولية والإرهاق والتعب علي الرغم أن صحتها لم تكن يوما علي ما يرام. ظلت تعمل قرابة أربعين عاما أو أكثر من حياتها. دون كلل أو ملل وبقيت دائماً كما هو "المعلم الحق" تعلم كل من حولها وتنير لهم الطريق. أولادها أطفالها في المدرسة الأقارب والجيران. ف استحقت عن جدارة لقب "الأبلة فكيهة" 
أنا لا اكتب مرثية لأمي فهي في غني عنها اليوم وهي في ذمة خالقها .. أنا أكتب مرثية لجيل بأسره. لم تكن "الابلة فكيهة" وحدها. كانت هناك "أبلة نادية" و "أبلة ليلي" و "أبلة جوزفين" وكثيرات من جيل نساء عرفن قيمة العمل وعرفن قيمة خدمة المجتمع. نساء اكتسبن عن حق احترام كل من حولهن. أني أرثي هذا الجيل الفذ من النساء واللاواتي عرفن قيمة أنفسهن قبل أن يطلبن من المجتمع أن يعرف قيمتهن. جيل لم يكن مهووسا بما يجب أن يرتدي من ملابس أو في أي المساجد يصلي فكانت الحشمة تكفي والصلاة في البيت في وقتها تكفي . لم يكن لدي هذا الجيل من النساء وقت يضيعن أمام شاشات التلفزيون العامرة ممن يطلق عليهم زيفا مشايخ المهوسيين بجسد المرأة وفتنتها وعفتها وختانها ونصفها الأسفل باختصار. 
 لم يكن نساء هذا الجيل يقضين ساعات علي فيسبوك والانترنت في قراءة نصائح تافهة وغبية عن الطاعة العمياء للزوج والاستماع الي فتاوي إن كان يحل للبنت أن تجلس مع أبيها دون محرم.
أمهاتنا كن يقضين الوقت في تعليم أطفالهن والعناية بهن وتعويضهم بالاهتمام في ما تبقي من اليوم بعد العمل. لم يكنّ بحاجة لإظهار الطاعة وقسم الولاء للزوج. فقد تعاهدن مع شركاء حياتهن علي الوفاء في السراء والضراء علي بناء حياة سليمة واقعية وحقيقية وتربية الأبناء علي القيم وحب العلم والتفاني في العمل. كن هن أنفسهن أفضل معلم وأفضل مثال علي كل قيمة من تلك القيم 
طوبي "للابلة فكيهة ورفيقاتها"