Translate

الاثنين، 19 نوفمبر 2012

عن البنات والاتوبيس والوجع .......





بلهجتها الصعيدية الطفولية جلست تبحث في رأسها الذي يضج بالالم عن اسماء صاحبتها في أتوبيس المدرسة المنكوب في حادث أسيوط ....”نوران والبت فاطمة والبت أروي والبت داليا ..وفاطمة أنا ماعرفهاش بس كانت جنبنا “ ولما ُسألت بتحبي المدرسة؟ قالت لا أنا مش باحب المدرسة ...لكن المهم في المدرسة صحباتها.... تعليقاتها البريئة ...وردودها التلقائية   دقت ناقوسا في ذاكرتي ..واثارت وجعا في قلبي ...اعرف هذا الكلمة تماما سمعتها قبل سنوات وانا اعد سلسلة أذاعية بعنوان “مدرسة للبنات”  من “صفاء” ابنه منفلوط هي  الاخري ... اتذكر صفاء ليس لانها تقاسمني اسمي فحسب ولا لأنها كانت من منفلوط التي تعيش وجعا يدمي القلب ويقهر النفس  لكن لانني اتذكر الدهشة التي شعرت بها عندما جاءت “صفاء”المتفوقة بشهادة الميسرات في مدارس المجتمع ف -جاءت تحكي لي  في ثبات وهدوء عن السر في تسربها من المدرسة وغيابها سنوات طويلة عنها لتعود  فيما بعد ليس لصفوف المدراس الحكومية التي تحظر عودة البنات الي المدرسة بعد أن يتخطين سنا معينا ولكن لمدارس المجتمع التي اقامتها منظمة اليونيسيف بالتعاون مع الحكومة المصرية ..لا اعلم  إن كانت هذه المدارس واتذكر أنها كانت تجربة ناجحة للغاية في مكافحة التسرب المدرسي ـ لا اعلم إن كانت قائمة مازالت أم لا . لكنني  مازالت اتذكر كلمات صفاء : “ أنا رحت أول يوم المدرسة دي لقيت فيها ضرب ...وأنا مش باحب الضرب خالص ...ما حبيتش اروح المدرسة تاني” 
لم يكن عيبا في صفاء التي نجحت بعد ذلك بتفوق والتحقت بكلية الطب وربما تقرأ اليوم كلامي هذا ... كان الخطأ في البيئة المدرسية.. في منظومة القهر والضرب التي تكون في انتظار الطفل وهو يخطو خطواته الاولي نحو المدرسة ...فأما أن تكون علاقة ود وحب وأما أن تكون علاقة قهر ورعب ....لذا شعرت بالفاجعة  والصدمة من تصريحات وزير التعليم في احدي زياراته الميدانية لاحدي مدارس الغربية بأنه يؤيد سياسة الترهيب والترغيب ولا مانع عنده في “ ضرب التلاميذ شريطة ألا يكون ذلك مبرحا أو بالعصا” 
لا اعرف ما هي المنظومة التي افرزت هذه العقلية التي تقر الضرب وهي علي رأس هرم التربية والتعليم ؟ هل درس سيادته الاصول التربوية هل يقبل أن يتعرض ابنه او ابنته للضرب ؟ الا يعلم أنه يقنن بذلك انتهاكا لحق أصيل من حقوق الطفل ؟ 
لا ادري اذا كانت مدارس المجتمع مازالت تعمل في صعيد مصر أم لا ولا ادري هل بامكانها اليوم أن تنقذ” صفاء” واخواتها من مصير القلق والخوف من الضرب الذي اصبح مقننا بمن هو علي أعلي الهرم التربوي في مصر  أو رعبا من المدرسات اللاواتي يقمن بقص الشعر أو يأمرن التلاميذ بتلميع أحذيتهن ....
الصغيرة الناجية من كارثة القطار تحدثت ببراءة تقطع نياط القلوب عن  صاحباتها اللاواتي تعرفهن واحدة واحدة وتتلو اسمائهن بخجل فهي  لا تعرف ماذا ستقول لهن : مش عارفة ح اقولهم ايه” .....ولم نسي في غمار الحياة ماذا تعني صداقة الاطفال البريئة المنزهه عن كل غرض ...عليك أن تستمع الي هذه الصغيرة التي “ لا تحب المدرسة” فهي كالدواء المر بالنسبة لها لكن صاحباتها “ورفيقات الاتوبيس “ هي السكر الذي تضعه علي  الدواء حتي تستطيع أن تبتلعه ...وفي ثماني دول في العالم العربي طفت نجوعها وقراها وأن أعد هذه السلسلة التي اعتبر أنها علامة فارقة في حياتي المهنية والشخصية - كان هذا شعور البنات من اليمن الي سوريا الي المغرب ....”رفقة الصاحبات” هي التي تجعل البنت تحب المدرسة حتي لو كان فيها عوامل طرد أخري مثل الترهيب والضرب ..هذه البنية الراقدة تصارع الالام المبرحة لم تتذكر من المدرسة سوي الصاحبات والرفيقات وهي في الواقع مثلها مثل عشرات الالاف من بنات جيلها - ينحصر حبها للمدرسة في أنها تقدم لها فرصة لتلتقي بصديقاتها وتتعلق بهن لانها تعلم أنها طريقها للملاذ والحماية والحلم بالغد .....
هل ادركتم بعد فداحة ما ارتكبنا ؟ هل عرفتم أننا بالاهمال والتسيب  بعثرنا في لحظة علي قضبان السكك الحديدية  مع اشلاء هؤلاء الاطفال احلام  جيل ...خنقنا فيهم الامان ومواعيد الصحبة البريئة